علي آل تاجر.. حريم في غرف الحب

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
14/09/2014 06:00 AM
GMT



خالد مطلك

ان رسم (امرأة جنوبية) مثلا، هو كما نعرف، موضوع مختلف عن رسم (المرأة الجنوبية)، الاولى تمثل نفسها، والثانية هي كل النساء اللائي ينتمين الى جنوب بلاد ما بين النهرين، في مقتطع مكاني وزمني محدد.

من هنا يمكن النظر الى مجموعة نساء الفنان علي آل تاجر، بوصفهن تمثيلا للمرأة الجنوبية وليس بوصفهن نساء من الجنوب، هن في الواقع مثال جمالي متعال عن تلك النسوة، مثال يشكل حاصل جمع الصفات الفريدة التي تميزهن وتطبع ملامح وجودهن في هذه البقعة  الجغرافية.

الموضوع الاول متاح ويتطلب دربة فنية وموديلا واقعيا او متخيلا، بينما الثاني يحتاج الى موهبة وحس عميقين ورؤية ثاقبة وذات عارفة تستطيع ان تقدم المشتركات الجوهرية لهذه المرأة.

بعيون واسعة وشفاه صغيرة واجساد رشيقة مفعمة بالحيوية والعافية، تفيض غرف نساء علي آل تاجر باللذة والرغبة الجسدية لنساء  المدن المحتشمة، التي لا يتحدث فيها الحب بصراحة وتلقائية، في غرفهن حيث الأماكن المجهزة للحب بمعناه الجسدي، تتكدس التفاصيل الهائلة في المساحات الصغيرة، حيث عالم العرائس في شبابهن المتوثب، في سنوات الزواج الاولى، عندما تاتي الانوثة شديدة التركيز والرغبة في توهجها الغامض المثير.

نساء هذه المجموعة المنتقاة من اعمال آل تاجر، لسن كما نتوقع للوهلة الاولى، كائنات واقعية تعيش في مسرح الانوثة لزمن الفنان وإرادته، والذي أعده لهن بطاقة تزينية أصيلة، تستغرق بسرد تلك التفاصيل الأليفة والحميمية، بل هن نساء سلالة راسخة في المكان والزمان الرافديني، ومنذ ان توصل جواد سليم الى مفارقة اتساع عيون السومريات في المتحف العراقي، جلب انتباهها الى بصمة العيون السود الواسعة لنساء تلك الجينات المتجددة في الجغرافية ذاتها. وقد لا تصلح مثل هذه الانتباهة في علم الوراثة، ولكنها في الفن جائزة بل وضرورية .

النساء في هذه الغرف، لسن في واقع الحال في موضع المتبرم، او الرافض المعترض الذي كتبت له الأقدار ان يعيش في غرف الرغبة المشروعة، بل هن في لحظة اشتهاء صافية، في لحظة التعبير المباشر عن الرغبة، عيونهن تتطلع بنظرة اشتهائية الى الخارج، إلينا بالتحديد، الى مناطق الحس فينا، هي تتوسلنا ان نتفهم تلك الحاجة الى الحب، في هذه اللحظة تحديدا، تغيب الحياة اليومية لصالح تلك الحاجة، حيث يختفي العادي والمكرر من حياة المرأة من اجل لحظتها الخاصة كأنثى في غرفة الحب.

ان موهبة علي آل تاجر وإعجازه الخارق، يتلخص في قدرته على الإمساك بتلك اللحظات الخاصة والفريدة في نظرة هذه المرأة، وشفرات جسدها، عبر تكوينات غاية في التمويه والخداع الفني، الذي يشي في بادئ الامر بتلقائية بل ببدائية ساذجة، ولكنها في الحقيقة  تكوينات شديدة التعقيد في استخدام الأشكال والمساحات استخداما معماريا بارعا، لا يترك مجالا للحذف او الامحاء او التجاهل، فكل شكل لوحده هو تصميم بالغ الكمال، لا يقل عنه التكوين الكلي للأعمال كمالا بل يتعداه جماليا ويستحوذ عليه. 

يمكننا القول ايضا وبراحة كبيرة، ان ألوان علي آل تاجر، هي ألوان عراقية، قادمة من مناخات خاصة وفريدة، لا تخطئها عين المشاهد العادي، هي ألوان البسط الجنوبية، وخميرة ألوان الطين وجذوع النخيل والسعف والقصب ولون مياه الأهوار، يضاف اليها ألوان تلك الأقمشة والأنسجة، التي تفضلها عين المرأة الجنوبية على سائر الالوان المشعة والصريحة الاخرى، هي منظومة لونية، لا يمكن بدونها التطرق الى موضوعات الفنان، دون الوقوع في فضيحة الافتعال.

لقد عاود علي آل تاجر اكتشاف عبقرية طين الرافدين، لقد أمسك بألوان الهور والقصب والبردي والغبار والهواء والضوء الذي اختصه السماء لهذا المكان العتيق في تاريخ البشرية. لقد أعادنا الى تلك العلاقة المجيدة مع المكان، ان هويتنا اللونية موجودة بكل كثافتها في ألوان باليتته، كما هي موزعة على سطوحه واقتراحاته الشكلية.

يجدر بنا كذلك، عدم إغفال تلك الممارسات الحاذقة في تزيين الخلفيات، بخاصة جدران الغرف الأنثوية هذه، التي رفعها الفنان من مستوى الالوان المبتذلة (الكيتش) الى شبكة من التقاطعات والتداخلات اللونية، التي تضفي على جو الرغبة هذا مزيدا من الغموض، ومزيدا من تسخين مسرح الحب، فقد عملت فرشاته وبمهارة على رفع تلك الديكورات الساذجة الى مستوى الفن. واغلب الظن ان الفنان هنا لا يقحم شيئا في مسرحه دون عميق خبرة (سينوعرافية) تجعل من هذا (الشيء) أمرا لا غنى عنه.
بالطبع انا هنا لا اريد ان اجعل من آل التاجر باحثا انثربولرجيا، ولكن أعماله تصلح وبقوة لمادة دراسة انثربولرجية عن (المرأة الجنوبية) او عن حريم غرف الحب، زوجات التقاليد المنسجمات مع طرائق الغرام بعد الزواج المعدة لهن سلفا.


بقي ان أقول، ان ما يجعل من علي آل تاجر فنانا أصيلا، متفردا ومحبوبا، هو تلك الكثافة العاطفية والمهارة في اخفاء مهارته من جو اللوحة وتقديمها إلينا وهي تتحدث بذلك الصمت الذي نفهمه.

في معرضه (عراق) يوم الأربعاء  القادم في غاليري الاورفلي، يتقدم آل تاجر بهدوء نحو عشاق فنه، معلنا إخلاصه لعوالمه الخاصة وهو يتمكن من القبض على جوهرها ويروح يحكي لنا عبر خطوطه وألوانه، تلك التكوينات التي لم تخلق أبدا لتمضي من حصة النسيان.

مع علي آل تاجر يمكننا ان نردد ما كان باسكال يقوله عندما يصادف فنا أصيلا: "يالسحر الرسم الذي يسرق الإعجاب من خلال محاكاته أشياء لا نعجب بأصولها على ارض الواقع كما نعجب بها".

"واي نيوز"