... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  مقالات فنيه

   
فرات قدوري في "الجنائن المعلقة : اناشيد عاشقين ومنفيين وحالمين قرروا الوفاء الابدي للحب

علي عبد الأمير

تاريخ النشر       22/02/2009 06:00 AM


ان كنت عراقيا واعياك الطريق الى الامل، واظناك الانتظار وحاصرتك الغربة فعليك التزود بموسيقى تقيك الوقوع في الرمال المتحركة لليأس، ومن بين انغام تلك الموسيقى القادرة على ابقاء فسحة الامل فيك، انغام تتضمنها اسطوانة جديدة لعازف القانون والمؤلف الموسيقي فرات حسين قدوري، وبنغمة اصفى واكثر خبرة ونضجا تأتي اسطوانة "الجنائن المعلقة" لعازف القانون والمؤلف فرات حسين قدوري.

الحان تنفتح على تجارب انسانية حياتية وثقافية واضاءات تاريخية واسطورية،لكنها وان اتسعت لا تخرج من مدار شخصي يتخذ من "القانون"مركزا نغميا يتصل بالات وتجارب موسيقية عراقية وعربية وانسانية اوسع مرة بروح المداعبة ومرات بروح الحوار والاتصال العميق.

مؤلفات فرات قدوري الجديدة ،بعد اعمال موسيقية انفرادية ومشتركة ،تستلهم خزينها الروحي الرافديني فتصبح رقيقة تارة وتتشظى بين الالات الموسيقية والاصوات الغنائية التعبيرية تارة اخرى كي تصور البعد الاسطوري للشقاء الذي يحياه الانساني العراقي اليوم ،لكن دون اغلاق باب الامل ، فالموسيقى رسالة ينقلها فرات قدوري من ارجاء بلاده المعذبة الى فضاء انساني رحيب.
في اسطوانته الجديدة.. يوميات شخصية ، فيحضر الاب الاسم العميق في الموسيقى العراقية المعاصرة مؤلفا وعازفا وباحثا فيهدي الابن اسطوانته اليه ، مثلما تحضر حكمة تاريخ واسطورة فضلا عن آمال تكاد تختنق لكنها لا تعرف اليأس..وكل هذا يأتي عبر انتماء موسيقي عماده النغم العراقي والعربي المنفتح على تجارب الموسيقى المعاصرة في "الجاز" و"الفيوزن".

موسيقى فرات قدوري في "الجنائن المعلقة" ..اناشيد لعاشقين ومنفيين وحالمين قرروا الوفاء الابدي للحب، وهي وإن جاءت كتجسيد لشخصيات تاريخية عراقية في حكايات موسيقية، الا انها لم تقع ضمن اطار "تصويري" تقليدي حتى وان كتبت باسلوب الموسيقى التصويرية، والنشيد الاول هو " حكاية سميرأميس"، المرأة الالهة التي رعاها سرب من الحمام بعد ولادتها، فاخلصت للريش والاجنحة بعد موتها، فصارت حمامة. هي ملكة آشور وفارس وارمينيا والهند ومصر واكراما لفتنتها بنيت نينوى. السؤال هنا كيف يمكن تكثيف الحكاية هذه باسطوريتها وواقعيتها الى نشيد او نغم موسيقي؟ والجواب جاء صريحا من فرات قدوري، فاستعان بمزيج من الايقاعات واللعب الرقيق على الة القانون، والاهات والصوت الجميل المجروح في نداءاته لوسيم فارس المستغرق في اتصال حميم مع فنون الاداء في المقام العراقي، الغناء والقانون وآلة "الجوزة" التي لعب عليها هنا محمد امين صورت المسار الإنساني لسميرأميس، فيما الايقاعات والآهات جسدت البعد الاسطوري، ولم يكن قدوري الا مخلصا لفكرة الموسيقى في انها فن انساني و روحي خالص، فابقى المسار الانساني لحكاية الملكة خاتمة شجية ورقيقة لمقطوعته.
 
من "عشتار" الى "الشناشيل البغدادية"

ولان العراق هذا المزيج النادر من الواقعي والخيالي، ولانه هذا الحدث الضارب في جموحه حدا غير معقول، كان من الطبيعي ان ينتقل فرات قدوري من مقطوعته الثانية "غزل عشتار" الى "شناشيل بغدادية"، ففي مقطوعته التي تصور عشتار أو عشتروت، الهة الحب والحرب التي سمّاها السومريون اينانا، والاغريق افردويت، ابنة الاله سين اله القمر، تلعب الة القانون (الحب) قليلا قبل ان تبدا الايقاعات والاصوات البشرية(الحرب) بالتناوب مع الصوت الرقيق للقانون المنفرد، في تصوير متناسق لذلك المزيج المتنافر في عشتار: رمز الحب والحرب في آن، ابنة الوركاء عاصمة بلاد سومر ومركز حضارة العالم القديم، التي انبثقت سيرة عشق من لذة ونار، فأغوت جلجامش وأسرت تموز.

ووفق هذا الاسلوب التركيبي المتداخل في ابعاده الزمنية والدلالية، يصل قدوري الى مقطوعته الثالثة: "شناشيل بغدادية"، فاذا كانت بغداد في عصرها الذهبي قد صارت اشارة الى كل معنى له علاقة بالتطور والازدهار،فيقال لاي مكان بانه "تبغدد"، فان الزمن في بابل "تبغدد" فاقام اعجوبة من اعاجيبه "الجنائن المعلقة"، وفي بغداد تجددت اسطورة بابل في الظلال والورود والقصائد والنساء الجميلات فكانت "الشناشيل"، التي صورها قدوري عبر جمل لحنية تتصل عميقا بفن موسيقي "متبغدد"هو المقام العراقي.
 
جاز في "ليلة شهرزاد" والسياب يبعث موسيقيا

ان الانفتاح الموسيقي الذي ميز نتاج فرات قدوري منذ اتصاله الواسع مع تجارب موسيقية عالمية خلال اكثر من عقد، انعكس في اتصال مع موسيقى الجاز التي حضرت في مقطوعته"ليلة شهرزاد"، وهو اتصال لم يكن عبثا، فشهرزاد صاحبة الحكايات التي اوقفت السفاح لسحرها وفتنتها عن ممارسة شهوانيته في القتل، كانت تحتاج في تصويرها شكلا موسيقيا ينفتح على بعد سردي(حكائي)، ولا شكل يمكنه هذا مثل موسيقى الجاز التي لطالما اراها في حريتها "نثر الموسيقى"، مثلما كانت "قصيدة النثر" لعبا في الشعر اوسع من الوزن.

واتصالا مع هذا المنحى جاءت مقطوعة تفخر بها الموسيقى العراقية المعاصرة، هي مقطوعة "انشودة المطر..لذكرى السياب" التي كتبها قدوري وفيها بعث صاحب "غريب على الخليج" موسيقيا، فثمة الناي باداء مرهف من وسيم خصاف، كخيار موفق لتصوير نحول الشاعر وفردانيته واحساسه العميق بالوحشة والغربة، ذلك الذي انشد لبلاده انها" غابة نخيل ساعة السحر" ومضى غريبا، مثلما كانت الة القانون تصور مشاعر الحنين، وما السياب الا مزيج متفجر من الغربة والحنين تكاد تلخصه ، المزيج الموسيقي والدلالي هذا يتواصل في الدقيقة الاخيرة من المقطوعة منسجما لينقطع فجأة الى.. الصمت، الم يكن السياب بموته صمتا"احتجاجيا"؟
 
الحكايات الاسطورية تنزل الى باحة المنزل الشخصي

وبما ان عمله الجديد الذي تولى لا كتابته وحسب، بل توزيعه موسيقيا، هو كالعراقي مزيج صريح من الصخب والرقة، من الهدوء الخشونة، من الحب والكراهية، فان فرات قدوري ينتقل من اطار الحكايات الاسطورية والشخصيات التاريخية الى باحة منزله الشخصي فيوزع بمهارة استنادا الى اجواء الالحان اللاتينية المتدفقة مقطوعته " ديما الغيمة الوردية" في تصوير لطفلته، فجعلها مقطوعة تحتفل بالحياة عبر فساتين ترقص "سالسا" وترانيم وايقاعات (لعبها زيد هشام) كالمطر اللاتيني الدافىء. ومن باحة المنزل الشخصي ايضا جاءت مقطوعة "ما تكتبه الاقدار" التي اهداها الى امه وابيه، لنبع في اياديهما، للحياة في بيت ظليل، للتنويمات، لليالي الصبر والانتظار، للامنيات وهي تورق تحت شجرتهما الحانا و"قانونا" يتذكرهما بعد الرحيل ويبكي. نعم كان "قانون" فرات يبكي وفاء واحساسا عميقا بالغربة، مثلما كان يبدع انغامه وفاء ابديا للحب.
ان اسطوانة " الجنائن المعلقة" لفرات قدوري، تشكل ملامح نضج في تجربة العازف والمؤلف الذي حرص في تنفيذ عمله الجديد في دبي على الافادة من قدرات موسيقيين عراقيين امثال زيد شهاب الذي لعب دورا مهما  في نجاح العمل اذ قام بتنفيذه على "الكيبورد" واشترك في التوزيع  الموسيقي ايضا، وشيراك تاتاسيان على الغيتار ومجموعة الكمانات التي ضمت ستة عازفين من ابرزهم احد اسماء التأليف والعزف العراقية المهمة: الفنان  خالد محمد علي .

وكان قدوري قد اصدر في عمّان العام 1998 اسطوانة  حملت عنوان "قانون بين النهرين" اكد فيها مستوى البراعة في العزف على القانون ومقدرة في التأليف لهذه الالة العربية والشرقية الرقيقة، ثم وفي ما يشبه المغامرة حين زج بـ"القانون" في مقطوعات يحاول فيها تأكيد مكانة الآلة وانغامها حين تحاور الات اخرى وانغام تأتي من بيئات بعيدة، بيئة البحر الكاريبي والايقاعات اللاتينية، اصدر اسطوانة "نداء الروح"، وجاءت اقامته في بلجيكا والمانيا ثم في الامارات فرصة للاتصال مع ثقافات وبيئات جديدة للمعرفة والتلقي وتراكم المعرفة والخبرات الانسانية، فصار علامة حاضرة في غير اكثر من مهرجان موسيقي عربي ودولي.

والفنان قدوري من مواليد بغداد عام 1970 وهو عضو فرقة "البيارق" التي شكلها الراحل منير بشير ،والذي يتذكره تلميذه بطريقة راقية في اسطواناته وحفلاته فيعزف له مقطوعته الشهيرة "ام سعد". وتخرج فرات حسين قدوري عام 1986 من مدرسة "الموسيقى والباليه" ومن معهد الدراسات الموسيقية عام 1992 واشترك في عدد من المهرجانات الفنية العربية مثل بابل وجرش وعزف في مدن القاهرة، باريس، برلين، بروكسل، دبي وعمّان. 
* شاعر وصحافي وناقد موسيقي





رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي عبد الأمير


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM