... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  محور النقد

   
بعد أن غادرت سميرة عبد الوهاب

سهيـل سـامي نادر

تاريخ النشر       31/07/2008 06:00 AM


 
                                       

أتصفح الآن الموقع الالكتروني الخاص بصالة سميرة عبد الوهاب : اعمالها الفنية ، صالتها " بغداد " ، صورها الفوتغرافية مع نخبة من الفنانين العراقيين الذين أعرفهم  ، كتابات النقاد عنها . شعرت بالاستغراب كوني لم أجد كتابة لي . ألم اكتب عنها؟ تذكرت ملاحظات كتبتها ولم أضعها في نظام محدد . لماذا ؟ لا ادري . أتذكر انها انتظرت ان اكتب عنها . كنت أضرب موعدا وأخلف . لعل سلوكي هذا قد آذاها ، وإن هي أغلقت عليه من دون حقد . لا زالت لا تعرف اسبابي الشخصية . (عفوا : هل كانت لك أسباب ؟ ) لا ادري مرة اخرى . والحقيقة انني كنت قليل الزيارة لصالتها الا عند افتتاح بعض المعارض المهمة ، وكانت تراني وتطلعني على تجاربها الفنية فأعدها بالكتابة ولا أفي بوعدي . أراها الآن في الصور وينقبض قلبي : صالة بغداد تبخرت في الهواء البغدادي المحترق وسميرة هاجرت الى السويد. إنها حكاية تخصني جدا – تخصني الى حد انني شعرت بالخوف من ان تختفي مع اشياء من طفولتي راحت الان ، مبتعدة ، مودعة ، تتلألأ بوهن .
كنت وسميرة عبد الوهاب في صف واحد بمدرسة ابتدائية مختلطة لا نظير لها من حيث الانفتاح والنشاط اللاصفي . بعد نحو أربعين عاما عندما أخبرتها عن معرفتي القديمة بها لم تصدقني حتى وأنا أسرد لها وقائع لا يمكن تكذيبها . أظن انها في ما بعد جاملتني في تصديقها لي حتى شعرت انني ربما كنت كاذبا وملفقا من اجل اهداف غامضة . أفسر اختلاف موقعينا من الماضي أن طفولتي كانت هي الشيء الوحيد الجميل في حياتي ما ابقى الماضي حياً في داخلي ، أما هي فكانت قد أنهت طفولتها مبكرا جدا ، إذ تزوجت وأنجبت وهي شابة صغيرة . كان عليها ان تجمع بين انهماكات البيت والعمل وطموحاته، فعاشت حياتها بعيدا عن طفولتها ، وببساطة ما كان هناك موقع لي في ذاكرتها ، وقبل ذلك في عالمها الجديد الصاخب . على الرغم من ذلك فقد راحت في ما بعد تستمتع بقصصي وتضحك منها حتى تطفر الدموع من عينيها . على نحو ما هي الآن متيقنة بوجود شبح في ماضيها سرق منديلها منها ورفعه كعلم يرفرف فوق رأسه وهو يركض في حديقة المدرسة . لعلها لا تعرف الباقي : ركضت خلفه ودفعته الى الارض بقوة وقلبته وأخذت منديلها من يده عنوة وابتعدت وهي تغني !
حكاية معقولة عن سميرة التي تأخذ حقوقها بيديها القويتين ، وليس مهما أن تتثبت منها . ( وكيف ؟ ) . جميل أن تكون لنا أحداث تقبع في الظل تومض بين الحين والحين . إن الكثير من ماضينا هو تلفيق يساعدنا على تحمل الحياة حتى لو لم نكذب حقا .

 في مدرستنا بالاعظمية كان درس الرسم يحظى بأهمية خاصة ، فهناك صالة كبيرة يشرف عليها اساتذة للتدريب والعرض ، كان آخرهم النحات العراقي المعروف ميران السعدي . من هذه المدرسة تخرجت رسامات موهوبات نجحن في تخطي القيود الاجتماعية بمساعدة زمن الخمسينيات القوي والسعيد والمنفتح من مثل سعاد العطار واختها ليلى .( الأولى تعيش في لندن والثانية قضت بصاروخ امريكي). ما زلت أتذكر رسومات الاخيرة الطفولية ، فقد كانت ترسم راقصات رشيقات على الطريقة الغربية . كان ذلك جرأة منها . أما سميرة فلست متأكدا من ذاكرتي عنها في هذا الشأن الذي لم اكن موهوبا فيه ، بيد انني اشتركت معها في مشروع تجسيدي لمحلة عراقية استخدمنا في اظهار بيوتها الطابوق التقليدي الذي اعدنا نحته وقصه ، وقد اخترت في هذه المهمة العمل العضلي الذي كنت استحقه وهي اختارت وضع التفاصيل من ابواب ونوافذ وشوارع ، وربما نهر .
 كانت سميرة طفلة سعيدة جدا ، تحب الالوان الحارة والزخرفة والتكوينات شبه التجريدية . هذا ما اذكره عن رسومها  . بيد ان ما كانت مميزة فيه حقا هو شطارتها وارادتها القوية في النجاح ، ولست اذكر انها وقفت موقفا محرجا في الصف . كانت لديها ارادة شبه عنيفة في النجاح . تدق نظرها في الفضاء العلوي للصف وتستنزل المعلومات منه فيما كانت تقف وقفة ملؤها الثقة والعزم والالهام . كان هذا يثيرني : من اين لها كل هذا التركيز ؟ هل تخاطب في الاعلى جنا مدجنا يساعدها في استرجاع المعلومات التي كانت تثير جنوني؟ من اين لها كل هذا الاحترام للمعلمين ولمعلوماتهم ولكتبنا المدرسية التي اعتدت تمزيقها بسبب حرجي الدائم منها؟
بيد انها سريعا ما كانت تبدد استغرابي من انضباطها هذا بجرأتها الطفولية التي أحببتها ، فقد كانت في عز الدرس تمرر لي بيديها الصغيرتين التفاح والمشمش والكوجة ، وأمرر لها بدوري ، لأني أجلس خلفها ، مسحوق الليمون الحامض المخلوط بالسكر وبعض السكاكر الرخيصة .
في عام 1958 قبل قيام الثورة بشهر او اكثر ، كنت اقف على السلم المؤدي الى الانواء الجوية في مطار بغداد وفي عيني النوم ، فقد قضيت الليل بطوله ارقب منفعلا طيران الطائرات وهبوطها على المدارج ، منتظرا على السلم قريبي الذي كان خفيرا في تلك الليلة وقد رافقته لاني لم اكن امتلك مكانا واحدا لقضاء لياليي .  تحت السلم على مبعدة ، رأيت سميرة مع زوجها وعدد من اقربائها . كانت بطنها منتفخة ، وتتحرك باحتراس ، ومن مكانها تستطيع ان تراني الا انها استغرقت تتحدث مبتسمة : انها نفسها ، نفس الغمازتين ، والاشعاع الابيض الذي يبرق بين الحين والحين على جبينها وعلى خديها ، بيد انها قصت ضفيرتها الطويلة التي كانت تصل الى خصرها . فكرت بأي سرعة دخلت فيها الى عالم المرأة بينما ما زلت انا ولدا . واصلت الوقوف هناك على امل ان تراني وتتعرف عليّ ، الا انها لم ترفع عينيها ولا لحظة . كانت سعيدة تستجيب برخاء الى محدثيها الذين جعلوا منها مركزا مشعا . شعرت بالحزن والاهمال فنزلت السلم على عجل . في الساحة الخارجية للمطار شاهدت سيارة شركة الانكرلي لنقل المسافرين ما بين العراق وسوريا متوقفة في مكان قريب ينزل منها المسافرون . فكرت بأبي الذي كان معلما في مدينة السلمية قرب حما . في الحقيقة رأيت شبحه متوقفا متعبا على طريق صاعد يسحب أنفاسا متلاحقة . كان مصابا بالربو ، وكنت سأغادر الى دمشق بعد اسبوعين . وشعرت بالقلق . 
في بداية السبعينيات قدمت نفسي الى سميرة في الصالة العلوية من (كولبنكيان) قائلا انه تعارفنا الثاني . وسألتها ، بين دهشتها وتعابير محاولتها اليائسة في التذكر ، عن سنها المكسور الذي كان صديقي في الصف توقف عنده في محاولة شعرية لكي يصفه في تشبيه مناسب فظل على حرف التشبيه واقفا لا يريم . كانت تحب الحلوى . هل ما زلت ؟ وتكركر سميرة بتلقائية الطفلة اياها ، وادرك انها احتفظت طيلة هذا الزمن بالقدرة على السعادة وتحويل المآسي الى احاديث عادية . وبالفعل حتى في الكوارث العائلية غير المتوقعة ، وقد فقدت اثنين من ابنائها في حوادث  قاسية ، كما فقدت زوجها مؤخرا ، كان حزنها من هذا النوع الذي لا يمنع الضحكات الصريحة من الانطلاق ، ولا الحياة من ان تمضي كما هي تمضي مسرعة او مبطئة ، ثم العمل ومسراته ، الطموح ، التجديد ، الرفقة ،  واستئناف العمل والأمل ، والرسم – هل نسيت الرسم ؟ الرسم الذي تعتقد انه ساعدها في تفريغ شحنات الغضب والحزن والتعبير عنهما .

والحقيقة انني منذ تلك الايام انتبهت الى رسومها ، بيد انني ما ان اقف ازاءها حتى اراني ابحث في رأسي عن ذكرى تلك الايام الطفولية ، فأكون أقرب الى سميرة البنت الصغيرة من سميرة الرسامة . كانت رسومها تضج بعاطفة حارة متمثلة باللون والاشكال غير المستقرة والعلاقات الخيالية والتكوينات المنفلتة. حتى الاشكال الواضحة بعض الشيء بدت ملحقة بعاطفتها وليس لحساسيتها الشكلية . على نحو ما كنت أتصرف ازاء رسومها بعقلانية باحثا في عملها عن صيغ معنية بالأشكال والانشاء وليس بالعاطفة ، وكان هذا يسلمني الى همهمة لم تفهم هي منها غير انني حاولت التهرب من اعطاء رأي . لا أحب هذه الكلمة : رأي ! ما معنى رأي عن رسوم ؟ انني ما ان أعرف شيئا حتى اراني اطرق يائسا ممكنات غامضة . فضلا عن ذلك أصارع ما أحبه ولا أحبه في لحظة التلقي. هذا لم اوضحة لسميرة ابدا . ولقد اعتقدت هي ، ما دامت كانت تقرأ كتاباتي عن الفن والفنانين ، انني لا أحب عملها ، أو إنني معني بنوع من الفن ، ونوع من الفنانين . على الرغم من ذلك كانت حريصة على ان لا تجعل من صمتي قضية نزاع . " أنت حر " تقول فأحدق في عينيها ، وأرى انها صادقة ومحقة ، وينتهي كل شيء.

لقد كانت غالبية الرسامات العراقيات مولعات برسم الاشجار والجذور والاوراق . كان هذا مثيرا وذا دلالة من وجهة نظري . فسواء تعلق الأمر برسم غابة أو شجرة مفردة أو حتى جذر ملتف متيبس ، يكاد المرء يشعر بوجود اشكال طبيعية جميلة تمارس دورا رمزيا . تخفي الطبيعة باباً الى النفس والخيال والتأويل .  في مجتمع ذكوري قوي يحيل الطبيعة والمجتمع الى الرجل ويضعها تحت تصرفه ، قدم العالم النباتي للفنانات غطاءً رمزيا متعدد الدلالات : كل ما يظهر جميلا في الفضاء وأصله يختفي تحت الارض ، ما لا نستطيع القبض عليه لأنه شائك وغير ظاهر ،  الطبيعة الام ، الانساغ الصاعدة والنازلة ، الملاذ ، الستر . الفنانة سميرة عبد الوهاب لم تشذ عن هذا التقليد في بداية عملها ، لكنها اختارت مسرحا آخر ، غير نباتي ، فضائي ، وخيالي . وكما أذكر كانت سميرة معنية في البداية نسبيا بالثمار ، كالتفاح مثلا ، والقصة اياها عن الطرد من الجنة . بيد انها بقدر ما كانت لا تستسلم للعلاقات الروائية تميل الى التجريد والخيال ، وأكثر من هذا كانت تحاول تصوير عواطفها ، من هنا كانت تثير صعوبات في فهم رسومها .
 رسمت سميرة الكثير من المضطجعات ، عاريات او نصف عاريات ، معلقات في سماوات او كهوف غريبة . تتوزع الاضواء في هذه البيئات الغريبة كما تتوزع في المقاصف والحانات ، لكأن المضطجعات في حانة من حانات جنان الخلد ، حيث اللذة الدافئة ذات اللون الأحمر متعادلة بنور روحاني أبيض قد يصبح احيانا بؤرة العمل . لعلنا سنتوقع وجود كؤوس ، بيد انها لن تكون كؤوس شرب ، بل ورود لحمية هائلة حمراء تتشبه مرة بكؤوس ذات تخصرات رشيقة متعددة وبأرحام كبيرة تسقى من اشكال ظلية .
سيظل هذا المسرح الفضائي الغريب يهيمن على انشاء اعمالها لفترة طويلة ، بيد انه سيتحول ، يتجرد ، ولا يتبقي فيه من الاشكال الظاهرة غير آثار الضياء على قماشة اللوحة . ثقوب هائلة يترشح منها الضوء الذي يتلاشى في الفضاء . الضوء نفسه يتخصر او ينتشر على شكل مخروط أو يتوزع متلاشيا على ستارة غير مرئية .
ما زلت اتذكر الفترة التي راح اللون الابيض البارد والمطفأ يتخذ شكلين ذاويين لشمعتين مستنفدتين . كانت فترة وسعت سميرة فيها أفق نشاط صالتها ، بيد انها باتت اقل مرحا واكثر تفكرا . ابتداء من هذا اللون ، وهذا الايحاء ، راحت سميرة تشغل سطوح لوحاتها في ضرب من الدراما العاطفية الخفية . لقد تعلمت القليل من القمع لمصلحة ذكرى حزينة تتلألأ بضعف. كان الماضي يكبر ، واللوحة لم تعد مسرحا بل طريقة لاظهار المزاج ، طريقة في التعامل مع الاخفاق والخوف واخفاء اللذة .
ثمة سلم ضيق كان يفضي الى الصالة العليا حيث كانت سميرة تجلس خلف مكتبها الانيق . في واحدة من الصور المعروضة في موقعها الالكتروني يظهر هذا السلم في لقطة من الاسفل كأن أحد يهم بالصعود . لكن لا احد . لم يعد هناك أحد . لقد غادر الفنانون كاليري بغداد : نزلوا السلم وغادروا بغداد ، خلفهم هبطت سميرة ، ألقت نظرة اخيرة وأغلقت الباب الى الابد . لا أحد هناك غير الصور . أغلق الموقع أنا بدوري وأشعر بالخوف.             





رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سهيـل سـامي نادر


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM