... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  محور النقد

   
ماتبقى .. ؟

سلمان الواسطي

تاريخ النشر       17/07/2008 06:00 AM


أن أحد دوافع الأساسية للفنون ، هو التعبير عن النفس الأنسانية ومايختلجها من رغبات وآمال وهواجس وقلق وأضطراب .. لذلك نجد أن الفن لن يتوقف أو يهدأ مازال هذه النفس الأنسانية هي التي تصنع الحدث وهي التي تساهم في ديمومتهِ وهي التي تأتي بعد ذلك لتبوح عنه ُ وتفشي أسراره ُ كي تتخلص من تفاصيل مرارته ُ أو بهجته ُ ، لأن النفس الأنسانية مجبولة بالبوح عن ذاتها كي لاتتراكم بمرور الزمن كل هذه التفاصيل سوى كانت مفرحة أو حزينة ، فيصعب بعد ذلك العيش خارج حدودها .. مما يؤدي الى الأنكفاء الى الداخل والبقاء أسير لتلك الذكريات وتداعياتها ، وبالتالي التوقف عن صنع الحدث أو الأسهام فيه .
 
وهنا يأتي دور الفن في كيفية صياغة تلك الأحداث والغوص في معناها والعيش في تجلياتها في حالة من الأستبصار والتأمل .. بل والتنبوء بمسارات تلك الأحداث ، محاولة ً منهُ في المساهمة لصنع الحدث بما يناسب أحلام وطموحات الشعوب . ماتبقى .. ؟ هو ماتبقى من الذاكرة .. ماتبقى من حُلم .. ماتبقى من آمال وطموح لدى الفنان والأنسان معا ً .. هو ماتبقى من ذاكرة الفنان عماد الظاهر ، ليأخذنا في مساريب هذه الذاكرة وهي معتقة برائحة الماضي .. برائحة الوطن والأهل والأصدقاء الذين تركوا لهُ بسماتهم كالعصافير تحلق في أزقة تلك الذاكرة ، لطرد عنهُ وحشة الأغتراب الأنساني لبعدهِ عن الوطن والأهل.. ووحشة الأغتراب الفني ، لأن الفنان أصبح بعيداً عن تأثيرات وإيحاءات منابع الفن التي جرت ومازالت تجري عبر التاريخ في وطنه ِ ، كجريان دجلة والفرات بين مدن بابل وسومر وأور وأريدو.. وبعدها بغداد وغيرها من المدن ، التي كان ومازال يستقي منها كثير من الرموز والحكايات والأساطير، وأصبحت حساسية الفنان تتأثر بما يرى ويحس به في البيئة الجديدة ، لأن حساسية الفنان العالية تتأثر بكل ماهو جديد وفيه تتجذر الأصالة أو الأرث الحضاري للأنسان بغض النظر عن هوية الفن أو جنسه ُ.

في معرض الفنان ( عماد الظاهر ) الذي أقيم بدار الأندى في عمان ، نرى أن الفنان يقدم لنا دراما أنسانية قد تختلف في الزمان والمكان إلا أنها تقدم رؤية أنسانية منسجمة عاشها الفنان من خلال تجربته أو تجارب أُناس آخرين عايشهم .. ولامست تجاربهم روحه ُ المبدعة ، هذه الدراما التي تجسدها أعمال ( الظاهر ) هي لاتعتمد على ضخامة وجسامة الأعمال النحتية التي قدمها ، أو على العلاقة التبادلية بين ضخامة الكتلة وجسامتها والفراغ الذي يحتويها وماتثير هذه العلاقة من استثارة التهويل والدهشة في نفس المتلقي .
وأنما نرى أن أعمال (الظاهر) برشاقة أستدارتها وتجانس أيماءاتها قد شغلت الحيز المكاني في جغرافية الأنسان ، وحين يطوف المتلقي في عوالم هذه الأعمال .. يدهشه ُ ذلك التشكيل الحسي في كل جزء منها ، أنها تجذبه ُ أليها وتجعله ُ يتفاعل معها في علاقة حميمية تفسر لنا سرْ عملية الخلق الفني حين تتحول ماهية المادة من عنصر جامد لايوحي بشيء الى عنصر يمتلك ملامح وصفات أخرى ،تتجسد فيه درماتيكيت الحدث ويختزل عوامل الزمكانية التي تمضي عليه ، فتصبح هذه الأعمال تشغل حيز مكاني في وجدان المتلقي .. وهذا مانبحث عنه ُ في عميلة الخلق الفني وأثر فعلها فينا ، أي أن أشتراطات هذه الأعمال ليس في خلق حالة توازن بين نسبّ الكتلة والحيز الذي تشغله ُ لخلق حالة جمالية فقط ، وأنما يتعدى ذلك الى ماتخلقه ُ هذه الأعمال من نسب متوازية في وجدان المتلقي بالتأكيد يتناسب معيارها مع ما أبدعهُ الفنان في أعمالهِ النحتية ..
 
وأعتقد أن (عماد الظاهر) قد شغل بأعمالهِ هذه ذلك الحيز المكاني في جغرافية الأنسان .. أن من يطوف حول أعمال ( الظاهر ) يجد ذلك البوح الآسر الذي يوقظ الدهشة فينا والتي تنبعث منها ، رغم أن حالة الأنتظار تستوطن أغلب الأعمال ودائما يقرن الأنتظار بالصمت ، لآن الأنسان يترقب الفعل القادم وأثرهُ فيه .. وفي البعدين الزماني والمكاني ، وهذا مانراه ُ في عمله ِ الأول من هذا المعرض حيث نرى كيف يصبح جسد الأنسان عبارة عن هيكل لاينطق ألا بالفجيعة لأن عوامل الحياة ومتغيراتها قد عرّته ُ من ملامح ونبض الحاضر فهو مبهم لأنهُ يعيش بلا ذكريات أنها أنتزعت عنه ُ، هنا تأتي صياغة الفنان المبدعة حين تجعل هذا الجسد يقف بهذا الشكل .. جسد من دون رأس ، وأكتاف تستند على طرفي الجذع لكنها مجوفة من الوسط .. فهو يصوغ هذا الأنسان وكأنه ُ فقد قلبه ُ حين لم تبقى لديه أي ذكرى ، وبقي الجسد منتصباً يبوح بفجاعية المكان رغم أن الزمن قد رعل عنه ُ .. وفي معرض ( الظاهر) ..شكل الفراغ الذي يتوسط أعمالهِ النحتية بؤرة أستقطاب لذهن المتلقي وأصبح المحور الذي تنطلق منه ُ الفكرة لتجسيم حركية العمل الفني ، ومايخلق من حالة أستثارة في ذهن المتلقي وهو يشاهد هذه الأعمال .. فمرة يستثار حين يرى في جسد المرأة الذي شكله ُ (الظاهر) بتلك المتانة من دون راس أو أطراف وهو يتماوج الى الداخل والخارج ليبقى محتفظاً بمفاتن الجسد وكأنه ُ حصن منتصب يقف فوقه ُ العصفور ، وقد أوجد في هذا الجسد فراغين أحدهما في الأعلى والآخر في الأسفل يتوسطهما قفلين ، قفلٌ للعقل وآخر لشهوة الجسد .. وهنا تأتي الصياغة الجميلة للفنان حين يشبه هذا الجسد الفاتن وكأنه ُ حصن لايُفتح ويبيح أسراره ُ ألا من عرف كيف يفتح هذين القفلين ،ونلاحظ أن المرأة تقترن بالبوح خصوصا أذ ما أرادت أن تعبر عن إيماءتها ومايختلجهّا من هواجس ورغائب .. لذلك كان وجود العصفور هو قرينة أخبارية عن هذه الأشياء ولكن بصوت منخفض أشبه بالبوح المجفر الذي لايفهمهُ سوى العاشق ..
أن أعمال (الظاهر) في هذا المعرض كما أشرنا .. يعبر عن دراما أنسانية ، تتجسد فيها مشاهد الرحيل والفراق ومايبقى بعد الفراق من ذكرى تستوطن جسد الأنسان لأن هذا الجسد من دون ذكرى لاقيمة له ُ، لذلك نرى في أحد الأعمال كيف رحل الأصدقاء أو العاشقيين ولم تبقَ محلهم سوى المظلة الشاطئية والعصافير تظلل ذكرياتهم الجميلة .. أن رقي العمل الفني لايقتصر على أكتمال عناصره ُ الفنية التي تصوغه ُ ، وأنما عنصر الموضوع حين يكتسب تلك الضرورة فنية سوف يعمل على تحفيز مكامن عملية الخلق الفني لدى الفنان وبتالي يعيش المبدع حالة الأستفزاز الفني المطلوبة في تلك اللحظة المتوخات ، لذلك وجدت هذه اللحظة في أعمال (الظاهر) تتجسد لتعبر عن مشاهد تعبيرية تلامس أرواحنا وتتركنا في حالة من الشغف للعيش مع كل أولئك الذي رحلوا ولم يتركوا لنا سوى ذكرياتهم لتدلنا عليهم ...





رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سلمان الواسطي


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM