... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  مقالات فنيه

   
في عمل للفنان عمار سلمان محنة بغداد .. تدوين معاصر

علي النجار

تاريخ النشر       19/11/2007 06:00 AM


            ( تؤدي ازمات زيادة التراكم عادة الى البحث عن حلول مكانية وزمانية , وهو ما يؤدي الى احساس طاغي بالاندماج الزماني والمكاني .. كانت ازمة التراكم الشديد التي بدأت في اواخر الستينات ( الولايات المتحدة) وبلغت ذروتها عام (1973) ادت الى هذه النتيجة تماما . فتغيرت تجربة الزمان والمكان وانهار الارتباط بين الاحكام العلمية والاخلاقية وحققت الجماليات انتصارا على الاخلاق باعتبارها بؤرة رئيسية للاهتمام الاجتماعي والفكري

         ديفيد هارفي

     إنمحت حدود وفواصل فروع التشكيل وتم التشكيك بموروثات ومستحدثات عديدة في نفس الوقت  , مقابل كل ذلك اكتسب الفنان المعاصر مساحة حرية في التعبير والاداء ما كان يحلم بها اسلافه. اصبح الفنان الان صانعا وحاويا ومكتشفا ومؤلا اعماله واحلامه وجمالياته وموقفه الاجتماعي والانساني, مخترقا مجالات جديدة وموظفا حسه وفطرته في نفس الوقت الذي يوضف مهارة المكننة المصنعية والمسح البيئي وغير ذلك مما تتيح له امكانياته او امكانات الموسسة الداعمة ان وجدت. مع كل ذلك غالبا ما انمحت فوارق القيمة او الجودة الفنية وضاع معيارها بضباب مؤسسات دعائية كبرى وصغرى تسوق ذائقة رخيصة ببهرجة مفبركةا و بحسابات شمولية السوق العالمية المؤدلجة ضمن نطاق عولمتها الاقتصادية البعيدة كل البعد عما يدور في ذهننا من شروط انجاز عولمة ثقافية مثالية  تعكس التعدد والتنوع البيئي الجغرافي .

   عن بغداد ومحنتها وما دونه التشكيلي (عمار سلمان) الذي اختار منطقة الحدود ( بداية  نشوء الحداثة وما بعدها, او ما يطلق عليها احيانا المعاصرة)التي أرخ لها الفرنسي (مارسيل دوشامب) منذ عشرينات القرن العشرين وكان وقتها مغردا خارج السرب ثم باتت الان محيرة بسعة وغرابة  مناطق بحثها وغزارة منتجاتها وصياغاتها التي تعدت المألوف حتى بات كل شيئ مباح من اجل تحقيق الفكرة او فبركتها حد السذاجة احيانا وصعدا لما يخبأه  نبض احلامنا

 

  اختار فكرة عمله بعناية فائقة غير بعيدا عن موروثه, ليمزج الارث بالمستحدث وينتج لنا تأويلا مقبولا لا يبتعد عما ينويه من  استفزاز مشاعرنا بموازات موروثنا الاسطوري والفولكلوري الذي استقى من  مفاهيمه ما يخدم اغراضه. فمن اجل القضاء على الغول (القوة الغاشمة) تصنع دميته وتخز بالابر في المواضع الحساسة او القاتلة او يرسم شكله التقريبي ويمزق الرسم الورقي لنصفين من اجل شطره والخلاص منه. كانت  المواد او الوسيط الاسطوري هش قابل للمطاوعة و الاختراق بالسرعة والسهولة التي تخدم الغرض.  اختار عمار كاسلافه ايضا مواده لتفي باغراضه وما بين النار والتراب والهواء قبعت مدينته المستلبه (بغداد) تستصرخ تاريخها الاصم.

    المنصور بفطنته وجد الواحة التي سوف تستظل دولته وبما ان الخلافة مركز واستقطاب ارادها كذلك لبغداده. المركز دائرة, مصغرها نقطة , هذه النقطة  من الكون المسكون تشعبت سبلها وتعددت مصائرها, انمحت مرارا اوكادت , دنست مرارا او كادت , لوثت مرارا او كادت , غزتها الرمال الغربية وغطتاها جلابيبها المقزمة, سال كحلها دما وتعفر تحت وقع سنابك الفتك المستحدثة التي لا تغطي تلوثها اية اكذوبة مؤدلجة او ملمعة

 

  بغداد دائرية, ,ملوية او زقورية , بناها (عمار) في عمله المصنع من التراب (الطين) بتأني الخزاف هرما دائريا اوقبة  ملساء مدورة وانشأ لها دربا موصلا (1) مستحضرا معمارية التأسيس الاول رابطا ما بين القبة والمسالك الموصلة لها  . يضمر العمل بشكله هذا رغبة ملحاحة للمسه  بسبب من نعومة سطحه الانثوي (الدائرة).كما يحمل ايضا بشكله الاولي دعوة لولوجه اما بانشاء او اضافة او هدما او انشاءا وهدما في نفس الوقت , هذا ما فعله الفنان من اجل تثوير فكرته او هاجسه او غضبه , لقد غرز عيدان الثقاب بكثافة وتماس على امتداد المسلك او الدرب المستقيم الافتراضي ثم استمر بخط حلزوني يتسلق الكتلة الدائرية المحدبةحتي وسطها. بنى دربه وحدود ملويته بخط ناري في انتظار لحظة الاحتراق, التفجير والفناء ثم اطلق اللهب ليفني ما انشأه   .

 

  العمل يعالج السطح الظاهري وينم عن تفاصيل ما يخبئه.. كل الدروب قادت الى دمار بغداد ومسالك بغداد تشضت . الدرب في العمل مستقيم مذكر مشاكس وغاشم وبغداد مدورة غادة كحلاء كما ارادها المنصور ومسالكها الدائرية الناعمة هي الاخرى تشضت . المركز اصبح حفرة يغطيها السخام , ثقب للفناء تؤرخه انقاضه. وحتى دروبها لفتها زوبعة او دوامة الوهج والرمادالعصابية وفقدت عذريتها. لا الدائرة استكملت جمالياتها او رونقها ولا الدرب عاد سالكا. الدرب  هنااستعاد عافية الاحزان مثلما ارخ للمسيحآلامه, ارخ للحسين هجرته موصولا بحبل سري لخيام عائلته ومخترقا دائرته(حومته) بفريقيها (المستضعف والمستكبر). طريق ملتهب بشموعه او عيدان ثقابه, مشاعل مغروسة في احشائنا ..لم تنجو حتى عناصر الطبيعة الاربع في عمل (عمار) من دمارها , ان مقاصده هنا تتعدى انيتها الى معنى اشمل لم يعفي كم خبث المصالح الكبرى من تحمل وزر اثاماها . العمل بشكله المعلن صرخة احتجاج على نوايا التدمير المنظم لاناسنا وبيئتنا ومشروعية ادامة احلامنا.

     بما ان العمل يحمل تسميته كما اقترحها الفنان, فان دلالته تبقى ملتسقة به . هو شهادة ووثيقة وكما سعت اساليب ما بعد الحداثة لتوسيع مناطق اكتشافاتها لحد مدهش من اجل الاحاطة بعالم بقدر ما تجري محاولات حثيثة لاحتوائه ظمن منظومة اقتصادية ومعرفية واحدة, بات يتشضى ويعصي على الاحتواء بسبب من عدم براءة النوايا المظللة المفبركة ببهرجة ورش  الدعاية الكبرى والتي سرعان ما تتصدع هيمنتها المفبركة ( سجن ابي غريب مثلا). الوثيقة في العمل الفني ما بعد الحداثي ربما ايماءة او اشارة مدروسة او فلما وثائقيا او موسيقى مبتكرة او وثيقة مدونة بوضوح او ملغزة (شفرة للصمت , الضجيج او الاثارة والوخز) فديو, عمل انشائي, تجميعي او تصنيعي او ما يندرج ضمن التسميات كلها. ما بعد الحداثة انفتاح على المجهول الذي بات مرعبا في العديد من نبوءاته. لقد تعدت اساليبه . لم تعد الرومانسية بوهج ملونتها وتفاصيل جمالياتها تعبر عن نبضنا المتسارع  لقد طمست  جوهر العمل تحت ركامها. اعمال اليوم تخاطب في العديد من منجزاتها طبقة الوعي الاعمق من دواخلنا. ليس كل ما ينتج وكما هو الحال في كل العصور الفنية بريء فالمقاصد والقدرة لا تتساوى والعمل مهما يكن يحمل سمته.  

   

  لقد استند عمار على مبدأ الانشاء والهدم في اخراج عمله . هو مبدأ ليس بالجديد ولا الطارئ في العمل الحديث . اما احراق العمل او تحطيمه فهو نهج معاصر والمهم هو الوصول الى مقاصد الفنان . وما يكسب العمل ديمومته هو الارشفة , وهذا ما فعله الفنان بصور الفوتو التي زامنت مراحل العمل. لقد ارشف لصدمته باحتلال بغداد واستمرار طوفان الدم واحتراق اخر ما تبقى من احلام سكنته على مدار غربة امتدت لاكثر من عشرين عاما. لقد تحولت بغداد التي كان من المفروض ان تكون خضراء الى تربة محروقه اندثرت في ثناياها كنوز معارف المكتبة الوطنية وتحطم ونهب ارث البشرية الاعرق من متاحفها وبتنا نستجدي ما ضيعوه منا وضاع الدم ورماد مخلفاتنا وبات العالم ودول الجوار اكثر عداء . فهل تكفي كل اثامهم ومحروقاتهم لاتنزاع جذوة موروثة توزعت اركان الكرة الارضية . انساننا الذي اورث البشرية حضارتها المكتوبة , هذا الفرد الذي استباحه القلق منذ الطوفان سوف يتمرغ في تربته ويرف من جديد . في انتظار ذلك سوف يبقى ارشيفنا ثقب في  تاريخ الذاكرة   .        اعمال كهذه تؤكد على قيمها من خلال اثارة اسئلتها المحورية عن قيمة جوهر الانسان ومحيط بيئته ولا تخفي نياتها التطهيرية وسط كم الدمار المنظم هي تقلب هذا الركام دوما بحثا عن الخلاص.

 






رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي النجار


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM