... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  محور النقد

   
الراحل اسماعيـل فتاح الترك بين النحت والرسـم

سهيـل سـامي نادر

تاريخ النشر       23/09/2007 06:00 AM


 
لا أريد بهذا المقال أن أكتب مرثية لفناننا الراحل اسماعيل فتاح الترك . لقد غادرنا والعراق لا يمتلك الوقت الكافي لرثاء نفسه . سمعت أنهم عادوا به من قطر وهو في أنفاسه الأخيرة ، وقبل أن يموت واتاه الصبر والإحساس بالشوق لكي يلقي نظرة أخيرة من نافذة المستشفى التي لا تبعد كثيرا عن دجلة . وحدها هذه النظرة كانت عزاؤه وعزاءنا .

نحن الذين تكاثرت علينا الأحزان لانني في هذه الأيام نلقي بنظرنا الى مدينتنا ، فخر طفولتنا الشاردة ، بدهشة خرساء كأننا نودعها الى الأبد . لم نعد نكترث بالموت بل بهذا الموات الذي يطوقنا ، وهو موات قديم في الحقيقة ، وإذا لم أكن مخطئا فقد راح اسماعيل فتاح الترك في سنواته الأخيرة يقاومه بالرسم واللون على نحو أثار تساؤلاتنا ، فهو المقل بالرسم ، واستخدام اللون على وجه التحديد ، راح يلون حتى اطارات أعماله الفنية ، ثم عمد الى وضع الصبغة على تماثيله البرونزية .

ابتداءً من هذه الاستجابة غير المتوقعة بات الرسم الملون كأنه يعوض عما افتقده الفنان ، وما افتقدته الحياة الثقافية ، من حماس وألق وأمل . والحال أن مقالتي تبدأ من هذه اللحظة التي أظن أنها تضم مواقع قوة الفنان واخفاقاته ، حيث الرسم يعكس الكثير من أشكال ودلالات محترف الفنان النحتي ، وحيث النحت يضحي قياسيا جدا وملازما للتقشف والحذف الذي اعتمده الفنان مخلصاً الى جمالياته القديمة .

إن الزمن مهم ها هنا : فما أن انتهت حرب الخليج الثانية حتى بدا الترك أكثر استعدادا واغراءَ من ذي قبل لكي يتقبل نشاطا كان يحرجه في السابق . فقد أنجز عددا كبيرا من الرسوم التي نفذها على الورق ، وأسهم ببعض المعارض المشتركة ، وأقام معارض شخصية توجت بمعرض كبير للكرافيك والرسم . لقد بدا واضحا أن الفنان خلص الى تجربة احتاجت الى تأكيد ، من هنا لم يخف سعادته من كونه توصل الى حل مشبع . قال لي أن الرسم أخذ يثير عنده حس الحرية والمتعة . فاذا اضفنا استخدامه للون بغزارة ، وهو المقلّ فيه ، فلنا أن نعتبر ذلك تأكيدا اضافيا .

إن سر الاهتمام المتزايد يكمن إذن في الحرية والمتعة المستحصلان من الرسم . ما من شرح أفضل من هذا ، فلا يوجد ما يختفي خلف الحرية والمتعة ويتقدمهما غير السعي اليهما وطلب المزيد . الا نبحث عنهما في الحياة والعمل ؟
 

البحث عن الدلالة

أود فيما يأتي أن أضيّع كلمات الترك هذه في عمله الفني أو أعيد دلالاتها الناشطة فيه . لا يعنيني هنا اختبار الكلمات بحد ذاتها والتأكد من صدقها ، بل مساءلة الانجاز الفني قبل كل شيء واكتشاف جمالياته .

إن كلمات الفنانين عن خبراتهم الشخصية مهمة لكن ليس بأهمية النتيجة الفنية التي يتوصلون اليها . وأحسب أن الموقع المناسب لها هو الاحتفاظ بها كحاشية للتعاطف والفهم وتحسين التلقي .

الكلمات تعيش منطقها ، ولقد أصبحنا منتبهين أكثر مما مضى الى وجود عنصر زمني ثقافي يلون الخبرات الشخصية ويغير من دلالات اللغة ، حتى لو اعتقد الفنانون أنهم يعملون في زمن مطلق . وثمة مثال مناسب في هذا الشأن ، فالكثير من مبدعينا اعتادوا قديما ربط العمل الفني بالمعاناة والألم وليس بالحرية والفرح والتمتع . ولقد دللوا بطريقة لا تخلو من اقناع على أنهم حصلوا على مكافآتهم عن جدارة!

ازاء ذلك يحدث أن يختبر الفنانون نسقا فنيا محددا ليتحولوا عنه الى آخر أو يستفيدون منه باحثين عن الرضا والكفاية - ولربما في كلمات الترك نفسها : الحرية والمتعة . إن لحظات مثل هذه تضم خبرات التحولات الاسلوبية ، واستخدام مواد جديدة ، وتغيير المفاهيم الجمالية . مثل هذه التنقلات تنتج حالة من النشاط في التعبير اللغوي تضم اليها جميع السلوكيات التي لا يمكن تقدير دوافعها الحقيقية في لحظتها . إن الترك نفسه قدم مثالا على ذلك : فقد أدخل في برنامجه الفني ثقافيات كان يتحرج منها ، كالحديث عن تاريخه الشخصي والفني . ولا شك أن انتاجه الغزير في الرسم قد عزز من ذلك البرنامج ، مثلما أثار تسؤلات عما يضمره في النحت . وأخيرا خاض تجربة جديدة في الكرافيك من دون أن يخشى الطبيعة النوعية لهذه النقلة ، وبالعكس أشار بوضوح إلى إحدى الوظائف التي يتيحها الكرافيك وهي الانتشار . والملاحظ أنه بوساطة الكرافيك أعاد إنتاج بعض الرسوم التي أنجزها في السنوات الاخيرة أو حافظ على روحيتها . إن هذا يعني أنه كرس لرسومه التعاطف اللازم لكي يراها منتشرة حقا في تقنية تخدم هذا الهدف المعلن .

إن هذه التحركات تمت في جو مليئ بالهمة والحماس شكلته في الأصل رسوم نثر فيها الفنان غزارة لونية فاجأت الجميع . من جهة أخرى علينا أن لا نستنتج من هذه الاختيارات الجديدة أي مغزى سلبي في علاقة الفنان بعمله الاصلي كنحات . فهي لا تعاكس النحت ولا تثير فيه اضطرابا كما سوف نلاحظ . وأكثر من هذا أنها لا تؤكد على الحيوية التي يتيحها الرسم من حيث الاتصال المباشر وانعدام التوسطات التـقنيـة ، فليس من المناسب وصف هذه الحيوية متعارضة مع أنساق فنية أخرى إلاّ في حالة اللجوء اليها خلاصا من يباس شديد أو معاناة في التعبير . إن قرارا بهذا الشأن متروك لتداعي هذه الحالات فضلا عن التقييم الشخصي . ولا شك أن الإحساس بها بقوة من قبل نحات قديم قد يغرينا باستحصال معنى جديد كهذا : لم أعد أحب النحت فهو لا يمنحني الحرية والمتعة كما في الرسم ! لكن الترك لم يصل الى هذه المرحلة . الامر كله يتلخص بأن الفنان فسّر على نحو مضمر القيمة العاطفية لاهتمامه المتزايد بالرسم ، وأنه متشوق إلى عاطفة لونية كانت مؤجلة طويلا .
 

معادلة القيم الفنية

أفادنا الترك عن تاريخه الفني بأنه كان يستخدم اللون في رسومه التشخيصية من دون خشية في سنوات دراسته بروما في الستينيات ، لكننا للاسف لم نطلع عليها . أما في العقدين التاليين فنستطيع التأكيد على أن رسومه فيها كانت متقشفة جدا في الخطوط والمادة اللونية والانشاء . كانت قريبة من تجارب التخطيط الحر غير المرتبطة بأي غرض عملي يختص بالنحت ، وموضوعاتها تلخصت بتمثيل الجسد الانساني أو أجزاء منه ( رجل ، امرأة ، الاثنان معا ) ولقد امتنع الفنان عن أي تمثيل روائي لها وجعلها تبدو مجرد حركة خط متآكلة في الفضاء تعيّن حدودا مختارة باختزال وتذهب متلاشية على صفحة بيضاء . إن اسلوبها التعبيري لا تقوده ارادة تمثيل محددة ولا هواجس فكرية ولا رغبة في اظهار اية أوضاع تشي بالحركة والشغل وأعمال التفسير ، بل أرادت اظهار نقاء الخطوط الخارجية وكفايتها وعلاقتها بالفراغ ، من هنا كانت انشغالا فنيا صرفا ، وقيمتها الجمالية مؤكدة بهذا المقياس وحده ، والفنان نفسه لم يستخدم التلوين فيها الاّ على نحو مسحات من ألوان محايدة شفافة وظفت فنيا وأدت الى تماسك الاشكال في الفراغ.

ثم حقق الترك في انتقالة قصيرة الى الرسم التجريدي القيم السابقة نفسها ، مضيفاً اليها عنصر المصادفة الفنية . ومرة اخرى نلاحظ ضمور اللون وتحديد وظيفته كساند او مكافئ غير جوهري . لقد ظلت ألوانه محايدة ، بل جاءت أحادية ، ولا تعدو غير نقاط ولطخات حبر تحركها أحياناً فرشاة تسحب الخط الى انشائية جنينية ما كان الفنان يكررها ، لأنها لم تكن تشكل سوى لحظة تنفيذ لا تسترجع . ويبدو أن هناك قصداً فنياً من ورائها . فمشروع الفنان الاصلي ليس اقامة وحدة بنائية من عناصر مختلفة ، ولا حتى تمثيل شيء غائب ، ولا التقرب من أداء محدد ، بل الاحتفاظ بالقيم الفنية نفسها المرتبطة بالخط ورهافة التحديد ، ومن ثم علاقة الخط والشكل بالبياض .

من الوجهة الجمالية الصرفه كان الفنان قد أكد على قيم كهذه في النحت ايضاً . فملامسة مادة الخط للبياض في الرسم كانت تأكيداً لملامسة الحدود الخارجية لمادة التمثال المحيط بالكتلة . إن السعي الى الرهافة في التحديد ونفي التشريح وحسية الاداء الفني والعزوف عن العلاقات الروائية هي قيم جمالية هيمنت على رسوم الترك كما في منحوتاته .
 

مــواقـــف

أعتقد أن الوسط الفني والثقافي العراقي في عقدي السبعينات والثمانينات لم يعامل رسوم النحات الترك الا كنتاج فرعي . الترك نفسه أسهم في هذا التصور ، فانتاجه قليل وفنيته خالصة ، وتخطيطاته المتقشفه ما كانت لتباري تقاليد اللوحه الزيتية أو ما يعتقد بأنها أعمال كاملة . لكن هناك سبباً آخر اكثر اهمية ، وهي أن تلك الفترة كانت منتجة للفنان على مستوى النحت ، فقد كلف باقامة عدد كبير من تماثيل الساحات ( الرصافي ، الواسطي ، ابو نواس ، الفارابي ، الكاظمي ) وحين فاز تصميمه لنصب الشهيد وجد نفسه ازاء أكثر الأعمال أهمية في حياته وأكثرها مدعاة للتفرغ والتكريس . والأمر مفهوم فنصب الشهيد ليس نصباً عادياً بل هو عمل معماري مشهدي هائل انسجمت فيه تطلعات متنوعة على مستوى التصميم والتنفيذ والتصنيع والرؤية الجمالية . إنه باختصار منشأة تدخلت في اقامتها جهات فنية وانشائية عديدة .

ويبدو أن استغراقه بذلك العمل الكبير ألقى على تماثيل الساحات التي أقامها وجهة نظر جديدة ، فقد بدأ يراها نسبيا في حدود قيمتها التذكارية ، مؤكدا على الاعمال النحتية ذات القيمة الفنية المعدة للعرض التي أقامها في تلك الفترة نفسها الضاجة بالحيوية والانتاج . أنا الآخر أجد أن منحوتات العرض الفني تمثل سلوكه الفني أكثر من تلك الاعمال التذكارية . قد أختلف مع الفنان في الرؤية ، فالقيمة التذكارية لا تلغي القيمة الفنية . ويبدو لي أن تماثيل الشخصيات كلها عانت في العراق من انعدام تنسيق فني بينها وبين الأحياز التي أقيمت فيها ، وهي على أية حال أقيمت على عجل ومن دون استشارة من المعماريين وجماعات التخطيط الحضري ، وقد حملت معها مشاكل القرارات الإدارية والسياسية والرغبة في التظاهر والإدعاء .

مقارنة بأعمال مماثلة نفذها فنانون آخرون فان أعمال الترك هي الأفضل من حيث التناسب والتعبير العام والاختزال والاستقرار . الا أنني شخصياً ما كنت أطيق تكبيرها بنسب مضاعفة لتبدو عملاقة وغريبة ، ولاسيما تلك التي كانت تقف على قدميها في الساحات العامة . إن هذا التضخيم للشخصيات الثقافية يحولهم الى أبطال مشوهين ، وأعتقد اننا ثقافيا وبيئياً أقرب الى قياسات ذراع أو ساق ، وتلك هي قياسات الفنان نفسه، ولعلها تشكل واحدة من مصادر الأنموذج الثقافي العراقي الذي يتجلى في القياسات النسبية لبيوتنا وأزقتنا وآثارنا ، حتى عمارتنا الحديثة المرتفعة لم تستطع الارتفاع على نحو متطرف ، والاتجاه العام في البناء ظل متمسكا بالبناء الأفقي .

أزاء ذلك كانت تماثيل الشخصيات الجالسة التي نفذها الفنان ، حتى في نسبها المضاعفة ، أقرب الى التحديدات الجمالية التي اعتمدها ، فالجالس ملموم الكتلة ، وجسده ينغمر فيها . إنه مجموع في بروز غير مشتت مما يعطيه سمة الوقار والرصانة : اليدان ملمومتان ، الساقان غير ظاهرتين ، ويشغل مساحة أفقية أكبر نظراً لاندماج مجموع نقاط ارتكازه .
 

صورة النحت

كان الترك مسكوناً بالنماذج التاريخية من دون اهتمام كاف بالمفهوم الثقافي الذي يفسرها أو يولدها أو ينتج قرائن لها . إن ذوقه الفردي واستجاباته الخاصة المدربة يستوليان على أحكامه الجمالية ، في حين كانت طرقه الاقتصادية في التعبير تتجاوز المفاهيم إلى معالجة الاقتراحات التي يجدها أثناء العمل ليس إلا . وكان يوضح أفكاره الجمالية في المنجزات الحضارية على نحو سلبي ، فهو لا يحب كثيراً ، وأحياناً كان يحب . فعلى سبيل المثال كان لا يحب النحت الاغريقي لأنه يعتني بالتفاصيل الجسدية والحركة ، ولا يحب نحتي عصر النهضة والباروك لاهتمامهما بالوضعيات . إذن لم يكن يحب التفاصيل ولا الوضعيات ولا الأجساد المتحركة ، وبالعكس ، أحب السكون ووقار الكتل عديمة التفاصيل والأشكال التي تنغمر بالكتلة ولا يمكن الفصل بينهما . ولقد أحب النحت المصري وفضله على النحت الاغريقي ، فالأول وقور والثاني شبابي مارس طيش الحياة . وفضّل النحت الأتروسكي الساذج بعض الشيء على النحت الروماني ، إلا أنه بالمقابل أحب بورتريهات الشخصيات الرومانية لقوتها وتعابيرها النبيلة . وكان من البداهة أن يحب النحت السومري ، وقد أخذ منه أحد المبادئ الوظيفية ألا هو مبدأ المواجهة .

ليس من البساطة أن نستدل بتلك الخطاطة السابقة على طبيعة عمله النحتي ، فهو نحات معاصر ، إلا أن برنامجه النحتي ظل بعيداً عن بناء أو تمثل أفكار ووضعيات وتصوير حركات ، وأرى أنه قدّم بدائل عنها ، فالحركة التي تحتاج أو تنتج مسافة عوّض عنها بوضع مسافة مكانية بين كتلتين ساكنتين يتغير المنظور ما بينهما بواسطة حركة المشاهد. أما الوضعيات فقد عوّض عنها بالعلاقة الإيمائية ما بين هاتين الكتلتين من حيث اختلاف النسب بين حجميهما والطبيعة الجسدية لهما . لعل الحل الأول متوفر في منشأة نصب الشهيد بقوة ، مع الأخذ بالحسبان القياسات الكبيرة لهذا النصب . فقد شطر الفنان قبة من الطراز العراقي الى قسمين متساويين وباعد بينهما في حركتين الى اليسار واليمين على نحو أنتج مركزين لهما ، مع وجود كتلة رمزية صغيرة في الوسط . النتيجة البصرية لهذا التدبير أننا في التفافنا حول النصب من مسافة مناسبة سنجد تغيّراً في المنظور وحركة في كتلته العامة ما بين انفتاح وغلق .

لا شك أننا في المنحوتات الصغيرة لا نلمس مثل هذا النشاط في الرؤية بقدر ما نلمس موحيات التعبير وخطوط التبئير في العرض الفني . والحال إن الفنان عوّض عن الحركة بخلق علاقات فراغية داخل كتلة الشواخص نفسها ثم ما بينها وبين كتلة أخرى أصغر منها بحيث نراها مرة مخترقة بالفراغ ومرة متجسدة في عمق تراتبي . هذا النسق نفسه يعوض عن حيوية الوضعيات عن طريق خلق مشهد مسرحي ايمائي وساكن بواسطة الحيز الخاص التي تعمل فيه المنحوتتان على حساب الفراغ الكلي لمكان العرض . إن أحد الأمثلة المعروفة في هذا الترتيب هو وضع رأس كبير ينام أفقياً أمام كتلة من الشواخص ذوي رؤوس صغيرة ، أو وضع شواخص أمام لوح مستطيل يمثل جداراً . ويبدو لي أن الترك استخدم اللوح الجداري خلفية للشواخص لوظيفتين ، الأولى للإسقاط العاطفي الرمزي ( اشارات وخطوط وأشكال أنثوية كالأثداء ) وفيها تحول هذا الجزء الى لوحة رسم ، والثانية تحويل المسافة بين الجسدين المختلفين من كونها مكانية الى كونها نفسية توحي بالانقطاع وعدم الاتصال . وفي كل الأحوال نجدنا أزاء حيز مكاني فني منتخب يعمل بمعزل عن الفضاء الكلي الذي يحيط بالعرض ، وأحسب أن الفنان كان واعياً تماماً لحجم منحوتاته الصغيرة التي تعمل في أحياز اصطناعية فنية وليس في فراغات المكان الواقعي ، والحلول التي قدمها في هذا الشأن كانت مثيرة ومناسبة منعت عن أعماله التشتت في الفضاء وخلقت شكلا من أشكال التبئير المسرحي من دون أن يكون مسرحياً حقاً ومن دون الإعتماد على حل من حلول الوضعيات المسرحية .

إن شخوص الترك غير مميزين إلا بوقفاتهم وذوبان أجسادهم ، يماثلون الظلال والأشباح ، مختزلون ، لا يتصنعون وقفة ، وفي أكتافهم العريضة وأقدامهم النحيفة لا يبدون واقفين حقاً . إنهم عراة من دون أن يبدوا كذلك ، لأن الفنان اعتاد انتاج عاطفة مخفية أومقموعة وذلك بحذف أي علاقة مباشرة ، أو أي وضع مباشر ، يفيد الشرح أو تقديم صورة روائية . فإذا ما أقام علاقة ما بين منحوتاته فهي دائما تفرقها المسافات والفراغات . وحتى هذه المسافة ستختفي فيما بعد لأنه سيجعل من شواخصه الانسانية أوابد فردية معزولة في الفضاء متمظهرة في عري ذابل ، ولهذا السبب جعلها في حجم طبيعي بعد أن كانت تأخذ قياساتها من قياسات ساعديه القصيرتين ، وذلك لضمان اشتغالها بالفضاء . إنه يجسدها في الكثير من الأحيان دون رؤوس ، فالمميز عنده ، في حدود هذه الظلال والأشباح هو الجسد ليس إلا ، عرض الأكتاف الذي يعوض عن الرأس ويؤكد الساقين . والمميز الآخر هو تقنية البناء التي أظهر حريته فيها بمسحات أصابعه ، ثم المرونة ، والحس بالمادة التي تذوب وهي تتشكل .

ان جمهرة كبيرة من منحوتات الترك هي صوامت تعتمد مبدأ المواجهة - مبدأ استعاره من التماثيل السومرية الدينية ، حيث ما يواجهنا وحده مكوّر ومشغول ، وهو فضلا عن سماته الدينية القديمة فانه اقتصادي من حيث الكلف التعبيرية العامة ، ومناسب للترك الذي اعتاد الحذف التشريحي والاهتمام بالكتلة العامة من حيث الاستقرار وعدم التشتت .

ان الفكرة الجمالية لمنحوتات الترك ذات الحجم الطبيعي تتلخص بالتعبير في الكتلة العامة كوحدة مكتفية بنفسها ، ليس لها نظير ، ولا تتكافأ بعلاقة اخرى ، وإذا فعلت فعلى نحو رمزي غير مباشر . ولعلنا نستنتج أن الانشغال النحتي الاصيل للترك هي حذف العلاقات الخارجية ذات الطبيعة المسرحية ، واظهار المنحوتة جسداً خالصاً نزع عنه أي أمل في أن يكون شيئا آخر.

ان وقفات تلك الأجساد النقية كانت استثمارا غارقاً في جمالية خالصة لا تعكرها لوعة أو هواجس فكرية مباشرة ، وهو أمر يثير الدهشة بالنسبة لفنان معاصر انساني النزعة عاش في بيئة ثقافية جدالية . والحقيقة أن الترك لم ينتج غير منحوتتين أو أكثر بالحجم الطبيعي تجسد حالة من الحيوية الانسانية أو يجترح مغزى فكريا فيها . ففي هذين العملين كان مدهشا في جعل الجسد الانساني يتحدث بلغة الحياة . الأول منحوتة ( حامل الديك ) المليئة بالعافية والمرح بما تمثل من ذكورة مضاعفة تحيلنا الى الفخر الممتع الهازل . والثاني منحوتة ( القناع ) التي نكتشف فيها أن حامل القناع يحمل وجهه المقتطع . في هاتين المنحوتتين حافظ الترك على جمالياته الأصلية من اختزال وتماسك وهيبة الكتلة واستقرارها ، مضيفا إليها حيوية التفكر بالحياة واللعب الممتاز والمناكدة .
 

الرسـم واللون

إن الانشغال الطاغي بالجسد الانساني لدى الترك سواء في النحت أو في الرسم يمكن تعليله بأن فنه انساني النزعة وحسي . لكن إذا فكرنا بأن الترك لم يستفد أبدا من الأوضاع الإنسانية في تنوعها الحياتي ، فتماثيله دائما منتصبة في الفضاء ونادرا ما تفعل شيئا ، كما انها لا تتجاور في علاقات جسدية حسية ، فلنا أن نستنتج أن مفاهيمه الجمالية حدّت من نمو أية وجهة نظر عاطفية ونفسية عن الانسان . ولعل اقتصادياته الشحيحة عاندت دوما حسيته الكامنة ، وهذا ما يفسر أن أعماله تمتلك طاقة درامية من دون أن تتجسد في تمثيل درامي . إنها تتفجر من الداخل في شوق الى فعل ما ربما كان مؤجلا . كما أن اختياراته غير المعبأة بوجهات نظر عاطفية مباشرة ظلت حبيسة صراع داخلي . وأحسب أن خروجه في سنوات التسعينيات إلى الرسم والزخرفة واللونية المبالغ فيها قد تشكل دليلا على ذلك ، وقد نعد ذلك تعويضاً أملته الحياة التسعينية الكئيبة ، رافقه تحول في الاهتمامات . والحال أن الترك صرّح لي أكثر من مرة عن حبه للون لكنه ظل محترساً في استخدامه على نحو صريح وواضح ، لعل اقتصادياته الجمالية الشحيحة مارست دور اللجام . ثمة احتمالية في هذا الشأن ، لأن اللون اغراء بصري مباشر لا يمكن تحميله دائما وجهة نظر عاطفية جذرية ، أما الرسم فهو شيء آخر ، علماً أن رسومه الأخيرة ظلت محافظة على اقتصادياتها الجوهرية النقية ، مما يلقي شكوكا على أي استنتاج جريئ.

لم يغير الترك المنطقة التي يعمل فيها ، فالاقنعة والرؤوس والوجوه حاضرة في رسومه كما في منحوتاته . في النحت كان يلغي التعبير في الوجه ، والأمر مفهوم ، فهو لا يصور اشخاصا بل يبني اجسادا لا يريد أن يلقي عليهم أية شبهة تمثيل أو أداء محدد حتى لو كان في التعبير بالوجه . أما في رسومه الاخيرة فقد أظهر هذا التعبير في أقل التفاصيل رهافة . ومرة اخرى نلتقي في رسمه بفكرته عن نقاء الخطوط التي تلتقط الجوهري وتحذف الباقي .

قبل أن يسحب رسومه الأصلية الى الكرافيك استخدم ألوان "الكريلك" الساطعة المضيئة ، ويمكن القول انه استخدم السلم اللوني كله من دون احتراس ، مظهرا هارمونية مليئة بالعافية والسطوع . ولقد لون جميع السطوح بما فيها الاطارات . ومن الواضح انه كان متمتعا وسعيدا ولا يخشى لومة لائم . لعل تلك الرسوم منحته الحرية .. الحرية في هذه الحدود التي اختارها أو التي أجبر عليها بسبب دافع ما .. وأحسب أن أصباغ "الكريلك" تمنح مثل هذه الحرية على مستوى السهولة وتجلي التنفيذ على نحو مباشر وسريع . ويجب ان لا نستغرب بعد هذا كله أن يلجأ الترك الى زخرفة الاطارات ، وتحويل عمله كله الى مهرجان صاخب مشبع باللون .

أعتقد أن نقلته الى الكرافيك لم تكن محسوبة جيدا ، ولاسيما أنه استخدم مواضيع الرسوم الملونة نفسها من دون إعادة تقويم ، كما أن تلوين الأعمال الكرافيكية لم يظهر النتيجة الاولى ، وبالعكس تحول اللون الساطع الى ما يشبه استخدام الالوان المائية الباهته . لقد بحث عن الشفافية اللونية ، الا اني لم أر إلا نتيجة من نتائج طباعة أهدرت صفاء المساحات اللونية التي أظهرتها ألوان الكريلك بجلاء ، وبالعكس ، فإن قوة هذه الأعمال تظهر فقط في وحدة تنظيمها الخطي التعبيري ، وهذا ما ظهر واضحاً في الاعمال الكرافيكية غير الملونه أو أضاف إليها خطوطاً لونيه رهيفة ، إذ استطاع فيها ، بسبب مايتيحه الكرافيك ، وصل خطوط كانت في السابق سائبة في الفراغ مجسداً تكاملاً حسياً بين طبيعة الجسد من حيث هو كذلك والتحديد الخطي الذي يجلي مناطق القوة والتعبير وبساطة الاداء . لقد التقت الخطوط بهيئات محددة متماسكة ، لأن القيمة الكرافيكية تجسدت بتقنية الطباعة مما ترتب عليه أن يعيد الفنان تقويم الخطوط ليس بوصفها رسماً بل كحفر يستعاد في وحدة عمل له انتساب جديد .
 

الحــيـاة

في الأيام التي كنت أراه يومياً أحيانا كان الترك فيها قد اجتاز الخامسة والستين من العمر . لم نكن نتحدث عن أعمارنا ، ولست أدري ماذا كان يشكل التقدم بالعمر لديه . كنا نتداول الشائعات السياسية ونحن نضحك . كان نشطاً ومثابراً لكن هالة قديس متعب كنت أراها محلقة فوق رأسه . ولأني كنت أتقدم بالعمر ، وكان هذا بالنسبة لي يبدو أشبه بالخلاص ، فقد اعتقدت أن التقدم بالعمر يفكك من احتراساتنا في تلقي المتع أو في توليدها من أشياء بسيطة لكي نستخدمها في حياتنا ، كما أن التقدم في العمر يحررنا ، لأنه يعزلنا وقد يحمينا من بعض التكاليف التي سبق أن دفعناها في شبابنا.

في تلك الأيام قارنت بين أعمال اسماعيل فتاح الترك القديمة وأعماله التي وصف أنها حققت له الحرية والمتعة ، وأدركت أنه بحث عن المتع التي تناسبه وتسهم في حمايته ، متع ولدها من تفسير لونه العاطفي أكثر من تفجيره وتجديده .

لقد بدا لي أبيقورياً حسياً يريد أن يعطينا وجه الرجل الواثق المستمتع أكثر من الرجل الذي يبحث عن طريق مقلق باهظ التكاليف ، وليس هذا بالأمر الهين على أية حال ، وفي الشروط العراقية المظلمة أعدّه إنجازاً وكفاحاً .
 





رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سهيـل سـامي نادر


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM