... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  محور النقد

   
فلاح السعيدي في فجر جديد: وراء الخطوط والاشكال وجه آخر للحياة

سلمان الواسطي

تاريخ النشر       07/05/2012 06:00 AM


في لوحات السعيدي أشكال ووجوه وعناصر وجودية تحمل معنى جديداً وفكراً ورؤى يبثها الينا عبر طاقة كامنة في العناصر والاشياء.


رغم ان جدار الحزن يزداد سمكاً ليشعرنا بالعزلة التي تحيط بنا، الا ان ضرباته اللونية استطاعت ان تفتح لنا ثغرةٌ للفرح، لتبشر بفجر جديد، هو بالتأكيد عشق جديد، وبعد مرئي يطوف بنا في مسارات ونهارات قد تكون بعيدة عن وعينا الزمني الحاضر، لكن بالتاكيد الفنان يدركها من خلال استشعار مجساته الروحية لماهية الاشياء وجوهرها التي تبعد الانسان المتلقي عن ادراكها، بسبب انشغاله المحموم بوجع الهم اليومي ونزيفه المستمر منذ سنوات، ها هو الفنان فلاح السعيدي، يقدم لنا نماذج انسانية قد هزّلها همها اليومي ولوعة المفردات الانسانية التي عبثا يحاول هذا الانسان ان يمسك بها، لكن بجمالية صياغته اللونية وقوة التعبير من خلال الثيمة التي يطرحها، تفتح لنا مديات في غاية الروعة لنطل من خلالها الى فردوسه اللوني وهو الذي بالتاكيد شيء من الفرح الذي نفتقد ونتوق عشقا اليه.

في هذا المعرض تخفي كثير من الوجوه وراءها وجوهاً اخرى، اذن نحن نقف امام اشكال ووجوه انسانية وعناصر وجودية قد لا تكون المرة الاولى التي نرَاها في تجربته الفنية، لكن بالتأكيد هناك معنى جديد وفكر ورؤى جديدة يبثها الينا عبر هذه اللوحات المفعمة بالروح والطاقة الكامنة في العناصر والاشياء التي تحتويها اعمال هذا الفنان المخضب بالمعنى اللوني الرائع والذي لا يتوانى عن ان يصلنا منه بعض الشرر المتطاير القاً ليمسنا بشيء من المس اللوني الساحر.

تقدم اعماله نضوجاً فكرياً واتساعاً لنافذة الرؤيا، وهناك وجود لاستجابات رؤيوية، مما يجعل المتلقي ينبهر بها لكن يحاول ان يصطاد هذه الفكرة او تلك، او هذا المعنى او ذاك، لكن تضنيه وتعاكسه حالة الاستجابة حتى يعاود الكرة والابحار في اعماله مرة أخرى، وهذا الذي نبحث عنه في الفن، الا يتم تقديم الفكرة والرؤية بشكل جاهز وواضح للمتلقي لان الفن التشكيلي يختلف في ذلك عن القصة والرواية، وان تشابه احياناً مع فن الشعر.

ففي لوحة الخيول حالة من التسارع الزمني وكأن الزمن هنا اختلف واخذ بعد "ما وراء الطبيعة" اي ما وراء ادراكنا الآني لهذا العنصر، اذن ما الذي يجعلنا نشعر هكذا حينما نبصر هذا العمل للوهلة الاولى؟

هناك حركات دراماتيكية للخيول من خلال استدارتها الى الخلف او مد اعناقها بقوة الى الامام، تشعرنا أن هناك شيئاً آخر تمضي اليه هذه الخيول، هناك معنى اخر يطارد في هذا العمل، ورؤية تنبثق منه لتجعلنا نقترب من مس هذا المعنى، لكن يخوننا احساسنا للمرة الاولى، عندما نحاول ان نفسر هذا الشيء تفسيراً جمالياً يتيماً، او يفتقر الى حالة الحدثيّة التي ارتقى اليها هذا العمل، ولكن عندما نتمعن في ثيمة هذا العمل ونبحر بابصارنا في فضائه اللامحدود نكتشف سر هذه الرؤية وهذا المعنى الذي بثه الفنان من خلال رؤيته الفنية واحساسه العالي لادراك المعنى الكامن في ماهية الاشياء وهذا الشيء يتولد من الرؤية الفنية التي حمّلت بعشرات المشاهد والافكار الحياتية منذ زمن بعيد لكنها تكون حاضرة لحظة المعالجة الفنية، وهذا ما يفسره علم النفس بتداعي الافكار لحظة الشروع في العمل الابداعي.
  

اذن هناك معنئ طارئ آيل للزوال مع سير الزمن هو وجود الطائرات الغريبة في سماء الوطن، وهناك معنى اصيل سيحل محل ذاك المعنى الطارئ، وهو بالتأكيد معنى متجذر ومتأصل في حضارة وادي الرافدين وهي الخيول التي تعني الجمال الباقي والقوة الاسطورية لحضارة هذا البلد العريق، انهن يجررن بزخم جمالي، وكأنهن يحاولن ربط الماضي المشع بكل ابعاده المعرفية والانسانية مع الحاضر الذي يعاني من انتكاسات متعددة ومؤثرة في وجدان الانسان المقيم على هذه الارض منذ مئات السنين.

لذلك نرى ان السعيدي لم يكتفِ برسم العناصر الجمالية لهذه الخيول كابراز رشاقتها والوانها وجريّها والغبار المتناثر خلفها كما اعتاد رسم ذلك عدد من الفنانين العراقيين، وانما النص المدون للمعنى المراد ان يستلمه المتلقي كان يتطلب ابراز جانب جمالي آخر وان بدّت هذه الجياد اكثر وحشية وعنفواناً وقوة ونرى ذلك في قوة استدارتها ومد اعناقها وكانها تريد طي المسار الزماني، حتى اختزلت عدة امكنة في مكان واحد لحظة شموخها الابدي لاثبات ذلك المعنى المتاصل بهذه الارض، ليرحل الغرباء عن هذا الوطن وتزدان السماء بذلك الطيف اللوني الجميل مبتهجة بابتسامات عشاق هذه الارض وان اعياهم غبار الحروب.

قال بورخس "اننا بحاجة الى الخيال كي نواجه تلك الفضاعات التي تفرضها علينا الاشياء"، لكن السؤال هنا، هل خيال المبدع قادر على خلق نص واشكال ورموز يكون فيها خلاصه وخلاصنا الابدي، اي يكون فيها ملجأ لحياة اخرى نكون بالضرورة قد افتقدناها بواقعنا الفعلي، لذلك فالمبدع يحرضنا لتمسك بها من خلال اعادة صياغتها لنا؟

ففي وجه المهرج الذي يقدمه فلاح السعيدي من خلال عدد من الاعمال حياة أخرى هناك الق وضحكة نكاد نفتقدها او تصبح بائسة، لكن المهرج يعيدها الينا بجمالية ساحرة يجعلنا مفتونين بحركاته الجميلة التي تشابه الجنون، وهل الجنون إلا ضرب من ضروب الحياة نلجأ اليه لتنفيس عن كبت الصدمات التي نتلقاها؟

اذن هناك وجه آخر يسكن وراء وجه المهرج الذي اعتدنا أن نضحك عليه لاننا نرى الوجه الأول ولا نرى الوجه الاخر المخفي لهذا المهرج، الذي يسكنه انسان طيب ومصاب بانتكاسات متعددة ومحزنة، لكنه عصي الدمع انه يريد ان يفرحنا بمجرد خروجه للشارع ولقائه بالآخرين، انه نسخة لانسان هذا العصر الذي يسكن هذا البلد وبلدان اخرى، انه يحمل جراحه ولكن يضمر الفرح والمسرة بمجرد لقائه الاصدقاء والاحبة فهو يبتسم.

وهل الجمال الا معادل موضوعي للقبح؟ وهل النص الجميل الصادق الا مقاوم واضح لذلك النص المهرج الذي يحاول ان يزور الحقيقة؟ وهل الوجه الجميل لهذه المراة او تلك، هو ما يخفي خلفه شيئاً من الوجع والالم الذي لا نشعر به لحظة الالتقاء بهذا الوجه الجميل في يومياتنا المشوبة بالحذر والملغومة بالاحزان المتكررة او الافراح العابرة؟

اذن بماذا يريد المبدع فلاح السعيدي ان يبوح لنا حين يرسل نصه اللوني مزروعاً بهذه الوجوه الجميلة الفاتنة التي تخطف القلب خطفاً، هنا تأتي قيمة الرؤية الفنية التي يمتلكها الفنان حين يغوص بابعاد السايكولوجية لتاثير الجمال في الروح البشرية، واي جمال يسحرنا ويذهب بنا الى متاهات لا حد لها غير جمال المراة اللامتناهي بالعذوبة والدهشة، لكن هل سألَ أحدنا نفسه حين يلتقي بهكذا امراة، ماذا يخفي خلفه هذا الوجه؟

هناك وجه آخر يحمل همه اليومي وجرحه النازف، لكنها تبقى تضيء وتعطي للحياة الحيوية والعطاء، هذا جانب، الشيء الاخر الذي يريد ان يخلقه فلاح السعيدي، هو خلق المعادل الموضوعي للجمال المفتقد على ارض الواقع، اي ان نصه يرسل لنا معنيين؛ الاول الوجه الجميل الذي يخفي خلفه وجهاً آخر يحمل الالم والحزن، والمعنى الآخر، هو يحاول ان يقول لنا إن هناك وجوهاً جميلة كالمدن الجميلة التي اتعبتّها وغطّت وجهها رائحة الموت ومرارة الحروب ولوعة المنافي والافتراق، اننا نلتقي بنساء نراهنّ شاحبات حزينات بسبب هذه الظروف التي تحيط بهنّ، لكنهن يخفين وراءهن وجوهاً جميلة رقراقة مثل ماء عذب، فهو يرسم تلك الوجوه المختفية بفعل تواتر الحالة الزمكانية عليهن، وما راقصات البالية الا صورة اخرى لحالة من الممّانعة للبقاء في دوامة ورتابة الحياة وقلقها المستمر.

لنمعن البصر في فضاء لوحة راقصات البالية سنرى نساء في قوام رشيق جاذب وساحر وفي غاية الانسجام الايقاعي، لذلك ترى ان حالة التضاد اللوني تتكثف وتقوى في وسط العمل لدلالة على قوة الايقاع الساحر وقوة تناغم الانسجام الذي وصلت اليه الفتيات في هذا الجو المسروق في غفلة من الزمن واي زمن هو الزمن الذي يجعل المجتمع يعيش حالة من التشتت والتمزق الحلم والرؤى والشعور بالضياع ورتابة الحياة، لذلك يحاول الفنان في هذا العمل والاعمال الاخرى من خلق حالة من التناسق وانسجام الايقاع اللوني، لذلك يعمد الفنان الى خلق ذلك التوازن اللوني المدهش الذي ياخذ المتلقي الى مساحات لونية فاتنة تجعله يعيش حالة من تعشق اللوني الذي ننشده في تجربة الفن التشكيلي

ان هذه الاعمال التي قدمها السعيدي في معرض "فجر جديد" في غاليري مرخية في العاصمة القطرية الدوحة، تجعلنا نشعر ان هناك فنانين عراقيين وعرباً لديهم القدرة على تشكيل فن ذي ابعاد انسانية وجمالية وحضارية يضاهي ما وصل اليه الفن في عدد من دول العالم في بداية قرن العشرين، بل يتجاوزه احياناً من حيث عمق التجربة الانسانية وانفعالها في ذات الفنان المبدعة، وبسبب ما جرى وشهده الفنان في منطقتنا العربية خصوصاً في العراق وفلسطين ومصر، جعل من الفنان، الرائي والشاهد لمكنونات وانفعالات التي تعتري الذات الانسانية والتي لا تستطيع ان تتذكّرها كتب التاريخ او الاجتماع، لكن ريشة فلاح السعيدي وفنانين آخرين مخلصين لقيم الانسان جعلتهم يقدمون تلك النماذج الانسانية الرائعة، لذلك انا مؤمن بان هذا الفنان له القدرة على اعطاء الفن التشكيلي العراقي والعربي والعالمي، اجمل ما لديه من مساحات لونية ساحرة ومؤثرة في ذواتنا القلقة التي تبحث عن عالم يعيد اليها فطرتها وطفولتها البريئة.

سلمان الواسطي

اريزونا، الولايات المتحدة






رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سلمان الواسطي


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM