... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

  محور النقد

   
محمد غني حكمت .الفنان الذي يدون حضارة شعب وتاريخ أمة

سلمان الواسطي

تاريخ النشر       07/11/2011 06:00 AM


ينبض … لينحت , ينحت … لينبض عطائه ُ .. فكره ُ .. رؤياه في تلك المواد التي لم تكن شيءً سوى مواد صلده لا تشير الى أي مرجعيات بصرية أو فكرية أو عاطفيه , لتصيرّها أنامله ُ التي تعودت على خلق الفعل الجمالي في حياتيه اليومية الى أعمال نحتية يسكنها الفعل الأنساني بكل تجلياته وإيماإته التي تطلق لهذا العمل أو ذاك سطوتهُ وقدرتهُ الفنية المتمثلة بالبعدين الأنساني والجمالي من أحتلال الحيز المكاني في نفس المتلقي وأشعال شرارة الدهشة في كل مكامن الحس فيه وتشده ُ الى هذه الأعمال والأنامل التي أبتكرتها , هو حفيد أولئك النحاتين في أرض ما بين النهرين , الذين ملئت منحوتاتهم مدن أور .. أريدو .. الوركاء .. وبابل .. ونينوى .., هو الفنان العراقي الكبير .. محمد غني حكمت .    

 هذا الفنان لهُ من رهافة الحس و المقدرة الكبيرة على أستيعاب لحظة الفعل الشاردة بين ثنايا الزمن ليمسك بها , ويتوقف عندها .. وقفت تأمل يحيط بها الصمت ,حتى تسكن بين ثنايا قلبه وتأويلات نبضه … حتى أذما جاءت لحظة أنعتاقها , يطلقها بضربة نبضية تأخذ مسارها الشكلي في هذا العمل أو ذاك .. وأنامله ُ تدون في الحجر أو البرونز .. والخشب , سيرة الأنسان بكل تهجداته ومدامعه وعشقه .. وحزنهُ الذي يأبى أن يفارقه ُ .. لأن هذا الألم أو الحزن هو سر بقاء أنسان وادي الرافدين متوهج لاينطفأ رغم كل هذه الحروب والويلات والغزاة  والطغاة الذين مروا به ِ وعليه ..

لذلك هذه الأرض محظوظة أن يولد وينبثق من رحمها فنانون .. مثل جواد سليم .. وفائق حسن .. ومحمد غني حكمت .. وخالد الرحال .. وحافظ الدروبي .. وغيرهم من الكبار الذين تركوا لنا أعمال خالدة ومؤثرة في ضمير الوجدان العراقي والعربي وأمتدت لبقية أصقاع هذه الأرض التي منها ولدنا وإليها نعود .. وعليها سنترك شيء من مدامعنا وضحكاتنا وبعض الدهشة التي تصوغها أنامل مبدعينا لتدل علينا …,

 في عام 1965 نحتّ الفنان محمد غني حكمت أول باب , وحينما فتحَّ هذا الباب .. أنفتحت لهُ بوابات العالم السبع , بكل خفاياها ودهشتها وعذاباتها وعشقهّا , وحين فتح أول باب ٍ لم يدرك أنه سيفتح كل هذه الأبواب , في بغداد .. وباريس .. وروما .. والمناما .. وربما هناك مدن لم ندركها بعد , فتحت لهُ هذه التجربة , حرية التجريد والأختزال في النصوص البصرية المنقوشة على تلك الأبواب , فأصبحت هذه الأبواب تعطي للفنان حالة من التجلي الفكري  وحرية ممارست فعلهُ الجمالي بروح تعبيرية  قد لايجدها بنفس المقدار حين يشتغل في الأعمال النحتية الأخرى , وهنا  أقصد أن الأشتغال على هذه الأبواب أعطى للفنان أبعاد روحية وفكرية وجمالية جعلتهُ يصوغ منها أكثر من نص يكون مدون بأكثر من أسلوب في العمل الواحد , أن للباب غواية , تستهوي المبدع وتلهمهُ وتستفزهُ في آن واحد . ولكن ليس أي مبدع تحرضهُ الباب ليدون على صفحتيّها مآثرهُ وتجليات روحهُ حين تتوهج بالأبداع , فالباب هي نقطة ألتقاء الأهل والأحبة وهي الصدفة التي تجمع محبيها , وهي الوشاية التي تؤدي بهم الى الجفاء والأفتراق أحياناً , هي الذكرى الجميلة حيناً .. والحزينة أحياناً أخرى لسماع خبراً لحظة الطرق عليها من أحداً ما .. وهي لحظة أختزال المفاجئة للمنتظر الطارق لها حين لايعرف بمن سيلتقي عند فتح باب دار , وهي أشبه بصفحتي كتاب غير مكتوبة تنتظران التدوين .. ,

 كل هذه المدلولات التي تحملها الباب في ذاكرة الناس في أزقة بغداد القديمة ومدنها الحديثة  كان يعرفها المبدع محمد غني حكمت , لذلك أجاد في تأويلها في أعماله , ولم يقتصر هذا التأويل في نحت الأبواب بل تعداه للأعمال النحتية الأخرى , وهنا تكمن أهمية أتساع الرؤية الفنية للفنان في كيفية أستكشاف هذا المعنى أو هذا المدلول وأستلاله من نص الحياة , والأحاطة بهِ وجدانياً وأبداعياً , لذلك نجد  الفنان محمد غني أستخدم نص الترميز من خلال الكتابة السومرية والبابلية ليعطي البعد الحضاري العميق لتاريخ هذا الشعب , ومرة نجدهُ يحفر الزخرفة الأسلامية ويدخل الحرف العربي فيها , ليعطي للباب مدلولها الروحي والوجداني في ضمير الأمة , وأخرى يجانس بين حركة الحروف ونقاطها وبين حركة جسد الأنسان , لذلك نجد أن الفنان يستخدم التوازي أو التقابل في النحت على هذه الأبواب , ليخلق المعادل الجمالي للنصوص المدونة عليها , سوى حين يستخدم حروف اللغة السومرية والبابلية , أو حين ينحت الزخرفة العربية , لذى أنهُ يصنع التطابق البصري وكأنهُ معماري أعتادة على هندسة الأشياء دون أن يسحب ذلك حالة الخلق الأبداعي لديه من حيث هي حالة أبداعية تستجيب للضرورة التفسير الجمالي في العمل الفني , الى حالة قد يخضع  التصميم جمالي فيها الى مقايس رياضية .

 عندما زرت معرض الفنان محمد غني حكمت في كاليري الأورفلي عام 2008 , وشاهدت أعمالهِ , أدركت وقتها أن هذا الفنان ليس مجرد نحات يخلق هذه الأشكال الجميلة ويدركها برهافة حسه ِ العالي , وإنما أنا أمام أنسان يمتلك  قلب فنان , ورؤية مفكر ومؤرخ , لهُ من البصيرة المتقدة ما تجعله ُ يبصر اشياء لايدركها الآخرون .. لذلك تراه كلما سؤّل ماذا لديك أخبرنا عن عمل جديد .. وجميل , ذو مضمون أنساني وحضاري يشير الى مرجعيات تأخذنا لألاف السنين الى تاريخ حضارة بلاد مابين النهرين , لهذا وجدت في أعماله ِ التي قدمها في سنوات العشرة الأخيرة التي جسدت معانات الشعب العراقي بسبب ويلات الحروب , تلك القوة التي تعطي البعد الأدراماتيكي للحدث الأنساني , وذلك آتي من أن الحدث الأنساني هو حدث متحرك في مسار زمني معين , لكن لدى محمد غني حكمت هذا الحدث بدأ منذ الآف السنين ولازال مستمر وهو متجذر مع تجذر أجيال الشعب العراقي على هذه الأرض , أذاً هناك أسقاطات من رؤى هذا الفنان على أعماله التي تجسد الواقع المروي من خلال منحوتاته , فحالة الأنتظار ورفع الأيادي في عدد من أعماله , هي حالة معاشة حاليا وتمتد لمئات السنين كما في أواسط قرن العشرين أو بدايته .. وهي نفسها معاشة في العصر العباسي والأسلامي والبابلي أو السومري . وحالة المرأة الثكلى المصابة بحزن فقد زوجها أو أولادها .. هي بذاتها حالة معاشة في ضمير أمرأة وادي الرافدين , لكن رؤى الفنان وطريقة المعالجة بتلك الحساسية العالية تعطي للعمل حالة سايكولوجية يلتقطها المتلقي أول ماتقع عينهُ عليه , أنها حالة صياغة فكرية تثير الأسئلة وتحفز على الأجابات في نفس الوقت فنجد ذلك في أحد أعمالهِ حين تقف النسوة وهن يواسن تلك المرأة الجالسة بكامل فجيعتها , أذاً هو مرة يصوغ الفجيعة بشكل أدرامي قلَّ نظيرها لدى معاصريه أو من الأجيال التي أتت بعدهُ ولانجد ذلك إلا لدى أستاذهُ جواد سليم .. وأخرى هو يصوغ الحلم والمعرفة وفي تلك الحالتين تكون التي تحمل الحلم أو المعرفة هي المرأة , لذلك المرأة لدى محمد غني حكمت كائن أسطوري جامع لكل الصفات الجمالية وهو لايتكئ على صفاتها الأنثوية ليعطي لها القيم الجمالية بل ينظر الى ذاتها المفرطة بالحب لكل المعاني الأنسانية التي تحيط بها رغم ويلات الحروب والقيود المجتمعية المتخلفة , أن كل عمل يصوغه محمد غني حكمت ويخرجهُ بالشكل الذي نراه , هو عبارة عن كتلة روحية قد أنزاحت مكانيا ووجدانياً في فترة زمنية معينة لتغادر ذات الفنان المبدعة وتستقر في ذات المتلقي .. لتثير ذاك الزخم الهائل من الأسئلة والأنطباعات الحسية والروحية وهذه بذاتها الدورة الكاملة في العملية الأبداعية , لذا يظهر تأثير هذا العمل بقوة مؤثرة في وجدان المتلقي ويسحبهُ الى أن يعيش في محيط العمل ويحيط بأبعاده الشكلية وقيمه الجمالية والأنسانية للنص المدون فيه , وعندما نرى تلك الأنحناإت والإيماإت والزوايا المتعددة لوضعيات الشخوص في أعمال محمد غني , هو يريد أن يعطي للبعد الحركي ثيمات أخرى .. لا تعتمد على تكرار الأقواس فقط وأنما تأخذ من زوايا الشخوص ومختلف وضعياتهم الحركية داخل المشهد الأدراماتيكي للحدث , أبعاد ومعطيات أخرى يبحث عنها المبدع والمتلقي معاً , لأنها تجسد حالة من التدوين للحدث الأنساني يجسدها النحات وفق معايير جمالية وأسلوبية نضجت بمرور الأيام والسنين في ذاته المبدعة .

 من خلال الأعمال التي قدمها محمد غني حكمت نراه أحيانا يريد أن يحدث صلة أو يردم الفجوة الحاصلة بين الماضي المليء بالأسرار والسرد الروحي والأنجاز الحضاري وبين الحاضر الذي يعيش حالة من التردي وفقدان للهوية بسبب التطور الحاصل في العلوم الأخرى وكيف أن التكنولوجيا سرقت كثير من أهتمام المتلقي والمبدع عن الأشتغال والأستغراق في العملية الأبداعية للفن والأدب بشكل عام والفن التشكيلي بشكل خاص .

والذي يميز هذا الفنان عن غيرهُ أنهُ أتخذ من الحكايات والأسطورة الشعبية مسار أقترب به أكثر من وجدان المتلقي
لأن للحكايات الشعبية ذات الطابع الأسطوري الذي يخترق ويتجاوز القوانين الطبيعة والواقع المعتاد أثر في نفوس الصغار والكبار وهي تتناقل من جيل الى آخر , ويتم سردها في البيوت والمقاهي والكتب , لذلك هو أستل هذا المعنى والمضمون الأنساني وبحث عن مواضيعه المؤثرة في وجدان المتلقي العراقي , لذلك قدم أعمال .. السندباد البحري .. شهرزاد وشهريار.. كهرمانة والأربعين حرامي .. وقد عمل مجسم للعمل جديد هو مصباح علاء الدين .

 لاشك أن النحات العراقي يواجه حالة من التحدي , لكون أرض وادي الرافدين قد أنجبت منذ ستة الآف سنة فنانين جلهم قدم أعمال نحتية ملئت ساحات وشوارع المدن السومرية والبابلية , لذلك هو يريد أن يتواصل من خلال فنه وتجربته الأبداعية بنفس العطاء الذي قدمه ُ أولئك النحاتين , ولايتخلف عن توثيق اللحظات الأنسانية والجمالية التي يعيشها أبناء شعبه , وكما قلت في السابق , أن الفن والشعر والأدب , هذه الفنون هي توثق ما لايوثقه ُ المؤرخين وكتاب التاريخ الذي يعنون بالأحداث كالحروب والثورات والكوارث الطبيعية وغيرها من الأحداث , لكن هذه الفنون تصور لحظة الشعور الأنساني المعاش في خضم تلك الأحداث , لذلك يصور ويدون الفنان محمد غني حكمت حالة التوحد العشقي الذي يمر به العاشقين رغم كل الويلات التي تحيط بهم , وكأن الفنان يريد أن يسلط الضوء عليها وينير تلك المسارات التي سيمضي من خلالها هذان العاشقان ويريد أن يبين أن هذه اللحظة هي التي تجعل الأنسان يحافظ على مسار أنسانيته , هو قدم أعمال توازي تلك الأعمال التي قدمها أجداده من نحاتين أرض مابين النهرين , هو قدم ودوّن عطاء ومسيرة شعب وأمة كاملة .. لذلك ترى الفعل الأدرامتيكي للحدث ظاهر بشدة في أعماله , الجميل في أعماله التي تسكن بكتلها ذلك الحيز المكاني , تبدو وكأنها غير ساكنه فالشخوص في حالة حركية دائمة , لأنهم في حالة تعاطي مع الفعل المسير لهم , وكأن الزمن لازال لن يتوقف في فضاء تلك الأعمال وليس من السهل أن يخلق أي فنان مثل هكذا حالة أدرامية , أن لم يعش أجوائها ويتأثر وجدانيا بها ويغوص ويلم بكل أبعادها الزمكانية والسايكولوجية وأحداث التاريخ التي أنبثقت منه ُ , لذلك أقول في ختام مقالتي هذه للفنان الراحل محمد غني حكمت ...
 
حين ترسم زهرة .. فأن قلبكَ ينبض , وحين ترسم وجه أمرأة ٍ فأن قلبك يحب النصف المشرق من هذه الأرض . وحين تنحت زهرةً فأن قلبكَ يدون سيرةً للجمال ليدلنا على مكامن السحر التي تسكنها .., وحين تنحت ُوجه أمرأة
فأن قلبكَ يحب أن يسكن ذلك الحيز المكاني ضوء قلبها وظل شعرها المتناثر كأزقة بغداد .., لكنكَ حين تنحت  حمورابي .. شهرزاد وشهريار .. كهرمانة .. المتنبي .. بساط الريح .. السندباد .. وتنحت الحرية في وجوه المعذبين فأنكَ تدون حضارة شعب وتاريخ أمة .
                                                                                 …  سلمان الواسطي
                                                                                     فينكس .. أريزونا   
 
 





رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سلمان الواسطي


 

بحث :

Search Help


دليل الفنانيين التشكيليين

موسوعة الامثال العراقيه

انضموا الى قائمتنا البريدية

ألأسم:

البريد ألألكتروني:



 

 

 

 

Copyright © 1997- IraqiArt.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
ENANA.COM