تكوينات جمالية

المقاله تحت باب  مقالات فنيه
في 
21/10/2008 06:00 AM
GMT




كل عمل يؤسس على أمتداد حُلم ومسافة زمن ومايؤثثهُ في أنفسنا المكان .. من ظل وضوء وبقايا ذكريات من ذلك المكان الذي غادرنا ... عفواً نحن غادرناه بعدما أستنفدنا كل احلامنا فيه .. أو تلاشت بعضها هناك ، فلم يعد يسعنا ذلك المكان من ذلك المقطع الزمني في عمرنا ... وحين يمضي بنا الزمن ونحن في طور التجريب والتجذيب تصبح الأستعانة بصور ومفردات الماضي التي أرشفت في ذاكرة المبدع ضرورة لأعادة صياغة الواقع وتشكيله ُ وفق رؤية يجدها الفنان مهمة لأحداث التوازن الجمالي في أعماله ِ الفنية بغية ملئ الفراغ الذي حدث في محيطه ِ بسبب الأختلال الذي أصاب مكوناتهِ وعناصره ِ وبتالي فُقدت السمة التي تعمل على أحداث التوازن الجمالي ِ للطبيعة. فلذلك حين يصبح عالم الواقع مصاب بالخلل الجمالي وعدم أتضاح الرؤية للفنان والمتلقي معاً .. يلجأ الفنان الى الأستعانة بالرموز أو الأسطورة أو الصور الآتية من ذاكرته ِ ، لأستخدامها في أعماله ِ الفنية لتقريب فكرة ً ما أو لتجسيد حالة ذهنية عن طريق بثها في شكل جمالي يثير الدهشة أو التسؤال في وجدان المتلقي .
هذا الشكل الجمالي يتشكل كما ذكرنا من خلال أستعانة الفنان برمز من الرموز سوى كان هذا الرمز معاصر أو آتياً من عمق التاريخ الحضاري أو التراث الشعبي للوطن أو الأمة .. ويبقى ذلك الأستخدام للرمز مرهون وفق رؤية المبدع .. لأنه ُ كلما أتسعت الرؤيا للفنان أختزلت العبارة الزمكانية ويصبح البحث عن رمز يأخذ وقت وجهد من تجربة الفنان الذي يريد من رموزه أن تكون الشكل المعبرعن أفكاره ِ دون أبهام في التفسير أو في المكونات التي تشكل أعماله ِ الفنية .. ومن هنا أبدأُ في محاولة لقراءة الشكل التعبيري لرموز ومكونات أعمال الفنانة نجلاء الرماحي .. تُعد أعمالها الأخيرة التي ستقدمها للجمهور في المعرض الفني المشترك الذي سيقام بدار الأندى للفنون ، خطوة مهمة وبداية لمرحلة جديدة من تجربتها الفنية .
 
هذه المرحلة التي تخوضها بأصرار على أكتشاف مساحات لونية ، لا يتوقف فيها الأختزال وتجريب مكامن الفن عند حد خارجي محدد لشكل من الأشكال .. وأنما يتجاوز الحد الخارجي للشكل المرسوم الى شكل وعنصر آخر يجاوره ُ حيناً ويسكنه ُ حيناً آخر حتى يتراءى للمتلقي وكأنه ُ يتلبس فيه ، هذا التشكل الذي تصنعه ُ (الرماحي ) هو ليس حالة من ظاهرة أنصهار الواحد في الكل أو حالة من الأندماج الحياتي للكائنات والعناصر التي تحيط بنا ، وأنما وجدتُ من خلال مشاهدتي لأعمالها الأخيرة ، أن الرماحي تحاول أن تستقرئ الأشكال وتدرس إيماإتها وإيحاإتها وأنعكاس ذلك في حياة الأنسان .

أنها تحاول أن تكتشف أماكن لم تطأها بصيرة الآخرين وتمس الذات الغائرة في مكامن العناصر لتحيط بأبعادها الروحية ، أن بناء اللوحة بهذه المساحات اللونية التي تأخذ حينا ً طابع الكتل اللونية المتناسقة وأحيانا ً تأخذ طابع كتل اللونية المبنية على مسافات ذات أبعاد تتسع بتساع رؤية البناء الأفقي للوحة حين يراد منهُ تكوين حس لوني له ُ طابع سايكولوجي في فضاء اللوحة حسب الموضوع الذي تم تعاطيه في لحظة التوهج الأبداعي الذي تعيشه (الرماحي ) عند الشروع في العمل الفني . ولم يأت ِ هذا البناء من مزاجية الفنانة وحسها المرهف وحسب .. وأنما أتى أيضا ً من الصور والمفردات التي تعج بها ذاكرتها منذ أيام الطفولة والى الآن ، هذه الذاكرة التي تشكل أحد مصادر الأبداع للفنان أذا أحسن التصرف معها وكان يمتلك حس أستبطاني متميز يجعله ُ يستعين بالذكرى أو الموضوع في اللحظة التي يكون حسه ُ الأبداعي في حالة من التوهج الذي يصيِّر هذه الذكرى الى عدد من المواضيع ويستخلص من الموضوع الواحد عدد من الصور والعناصر التي شكّلته ُ ، فالميناء والبحر وطيور النورس والأسماك والسفن وأشرعة القوارب وشِباك صيادي الأسماك وغيرها من مفردات حياة المدن التي تطل على البحر أو الخليج .. شكلت عناصر ومفردات لمواضيع التي تتناولها الرماحي في أعمال هذه المرحلة ، أن تناول هذه المفردات لم يأتِ لغاية جمالية وحسب ، وأنما حتمت ذلك ضرورة فنية لتجسيد فكرة ولبناء موضوع يستند الى مرجعيات بصرية خُزنت في ذاكرتها منذ سنوات ..
 
ولكن لما هذه المفردة أو هذا العنصر دون سواه ، يعود ذلك الى أن الأنسان بشكل عام والمبدع بشكل خاص كلما أزدادت حولهُ القيود التي تفرضها الظروف الاجتماعية والأقتصادية والسياسية .. يبدأ يفكر في أبتكار وسيلة جديدة تفتح لهُ ثغرة في جدار هذه القيود .. يغوص من خلالهِ الى أقصى حالات التلاقي الوجداني في الضمير والروح الأنسانية ، لأن الحُلم والتحرر وتحقيق الذات كل هذه الأشياء يلتقي عندها الضمير الأنساني المتجرد من نوازع الأنانية ، فالسمكة في أعمال (الرماحي ) هي ليس مجرد كائن حي ذا بُعد جمالي وحسب وأنما هي دلالة تكوينية للحُلم غير محدود يمتدُ الى ماشاء الله ... لأننا مسكونين فيه أو هو يسكننا منذ صغرنا لذلك يحدث التناص بين ذاتنا التي لا تهدئ وأن سكن الجسد وبين ذات هذا الكائن أو ذاك من العناصر والرموز التي يتخذها المبدع شكلاً لتمرير تصوراتهُ وهواجسه ُ ، كلنا كنا حين نرى الطيور المهاجرة على شكل أسراب في مواسم الهجرة .. كنا نتمنى لو حلقنا معها ونتجاوز الحدود الطبيعية بتضاريسها والحدود الذاتية بمعوقاتها ، كي نرى العالم بعين أخرى .. وذواتنا ببصيرة ثانية ، أذاً في مرحلة من المراحل اللاحقة وأن حققنا شيء من هذه الأمنيات التي كنا لاندركها سابقاً تصبح هناك حاجة لأستدراك تلك التجربة لأعادة صياغتها ، لكن هنا بعين مبدعة وبرؤى ناضجة .. وهذا ما تفعله ُ الرماحي في تجربتها الفنية هي لاتريد أن تحرم المتلقي من عيش تجربة متعة أنتظار الحُلم وأكتشاف المجهول من مرئيات أيام الطفولة والصبا ، هي تريدنا أن نغوص مع هذه الكائنات لأكتشاف كل الأبعاد الحسية والروحية التي تحيط بنا على أساس أن الحقيقة تكمن في باطن الأشياء وليس في ظاهرها ، أن الملفت للنظر في تكنيك الذي تستخدمه ُ الرماحي في هذه المرحلة ، هو عدم أعتمادها في بناء اللوحة بشكل كبير على الكولاج وأنما يأتي البناء أحياناً بشكل متساو ٍ بين أستخدام الكتلة اللونية وأستخدام قصاصات الجرائد أو الورق الملون أو الأقمشة .
 
وأحياناً يتسع أستخدام أحدهما على حساب الآخر ويعود ذلك للفكرة المراد تجسيدها لموضوع ٍ ما ، ولكن نلاحظ أن أعتمادها في بناء اللوحة على الكتل اللونية يكون هو الغالب أحياناً وذلك حين يكون المراد من هذه الكتل أن تعطي إيحاء السايكولوجي للعمل الفني في وجدان المتلقي .. بينما يأخذ الكولاج الدور الذي يثير هذا الجو أو يكون هو المفتاح أو المدلول الذي يأخذ ببصر المتلقي الى الغاية التي يبتغيها الفنان في عنصر أو شكل موجود في العمل الفني ، فالشكل لدى الفنانة فيه تداخل لوني وتداخل شكلي للعناصر والرموز التي تستخدمها يصل الى حد التناص بين الأشكال لأنبثاق شكل جديد قد لا تدركهُ الفنانة في لحظة أشتغالها الفني لأنهُ لم يقحم في جو العمل الفني أقحاماً بل أتى نتيجة أن هذا الشكل المنبثق أتى من العقل الباطن الذي يسير في لحظة الأشتغال الفني أو الأبداعي للأنسان أناملهُ ومخيلتهُ بتجاه أنبثاق الشكل الجديد الذي سترصدهُ بصيرة المتلقي بدهشة العاشق الذي يبحث عما أفتقدهُ منذ سنين .. في الختام أقول أن الذي ننتظرهُ من الفنانة ( نجلاء الرماحي) في أعمالها القادمة من تجربتها هذه الشيء الكثير خصوصاً أن الشكل الذي تتخذهُ وسيلة لتعبير عن مكنوناتها أولاً .. وعن مكنونات المتلقي ثانيا ..ً يستوعب الكثير من العناصر والرموز والمواضيع التي تخص الأنسان في بلدها أو في العالم أجمع .